سيهانوك ديبو
هي مؤامرة كاملة. جريمة متكاملة الأركان. مؤامرة على شعب وقضية وقائد. جريمة اشترك في تنفيذها عديد الدول في عشرات الجهات حتى أدت إلى اعتقال أوجلان في 15 شباط 1999. وأنت تقلّب صفحات التاريخ قلّما تجد مؤامرة تشبه هذه المؤامرة في أن اتحدت فيها القوى المتناقضة واتفقت فيما بينها أشد المختلفين. وكخلاصة عقدين من الزمن، وعلى ضوء ما يحدث في المنطقة والعالم؛ يصل كلّ من غايته الوصول إلى أن الأكثر انتصاراً هو أوجلان وفلسفته. وأن أكثر الخاسرين هم الذين راهنوا في اعتقاله بأنْ ينتهي كل شيء.
ليس سراً القول –محقيّن إلى درجة كبيرة- بأن أبناء الشرق الأوسط أصابهم الملل من الأيديولوجيات والعقائد؛ بخاصة بعد السنوات الثمان الأخيرة التي مرت على المنطقة والسنوات الثمان التي تأتي. ولأن العقل يؤدي إلى الهلاك؛ والخلاص يتم عن طريق الإرادة وحدها وفق غرامشي، سجين آخر من سجناء الفاشية والاستبداد؛ فإن تمييزاً فكرياً وتنظيماً مجتمعياً يبدوان الأكثر وضوحاً وصيغ الفكر والأسلوب والاستراتيجية في فلسفة أوجلان. أوجلان أول ماركسي لم ينقلب على الماركسية؛ إنما طورّها، خلاف التطوير الظاهري والتناقض الكبير المتحقق على يد وعقل فلاديمير لينين. ذلك ينطبق أيضاً على خصمه ماو تسي تونغ. ذلك مُلاحَظ بشكل فاضح عند غالب الماركسيين في سوريا وأحزاب يسار عموم المنطقة في زمن ردة اليسار؛ المنقلبين بلحظة إلى الجانب النقيض. على ضوء مئة صفحة من مجلده الخامس (القضية الكردية في حل الأمة الديمقراطية) ينتقد أوجلان فكرة الالتزام بالماركسية اللينينية في طرحها لحل قضايا الشعوب؛ لكن دون أن ينقلب إنما بالمطوِّر. انفتح أوجلان على ابن خلدون في فكرة تحقيق الانتماء/ العصبية فرأها مطوِّراً أيضاً في أن الانتماء يتحقق من خلال خلق ذهنية العيش المشترك ووحدة المصير. وعلى الوعي عند هيغل والحكمة في رسائل إخوان الصفا، دارساً ماهية المعتزلة، وبعيون نقدية مشكِّكة لمنطق أرسطو ولمثالية أفلاطون المفرطة ورفضه لتوماس هوبز وانفتاحه على روسو. رأى في النبي زرادشت الأيكولوجي الأول بالرغم من اعجابه بأفكار موراي بوكجين في الأيكولوجيا الجذرية أو المؤسس لها. وافق أدورنو في مخاطر المجتمع الصناعي على الثقافة، رأى بعين نقدية لسر (الاضطراب الكبير) وتحليل الأنظمة العالمية عند عمانويل والرشتاين. له موقف يميّزه من الإسلام ودعا بشكل أوضح أن يكون بالإسلام الديمقراطي؛ فيشخص ذلك من خلال: (إن إنتاج الأفكار على منوال موالاة الدين أو الخروجِ عليه يعتبر نشاطاً اجتماعياً أو أيديولوجياً ذا معنى. يجب ألا يكون التصنيف هكذا…).
إن فلسفة أوجلان في الأمة الديمقراطية تعتبر اليوم الحل لأزمات الشرق الأوسط وفي الوقت نفسه حماية كبيرة له من الحد/ الوقوف -دون تبعية- في وجه مخاطر أنظمة الهيمنة العالمية الرائية في أن يكون الشرق الأوسط على طول الطريق وعرضه مكباً للأزمات واستخراج الطاقة اللازمة لها فقط. في الأوجلانيزم الدعوة بأن ينهض الشرق الأوسط أخلاقياً سياسياً أيكولوجياً متحرراً جنسوياً ليقوم بدوره التاريخي المُكامِل في صنع قيم الحضارة العالمية. ما يقوم به أوجلان استخراج حقيقة الشرق الأوسط الديمقراطي.
ما الذي عند أوجلان وعند الأوجلانيين حتى تخافه وتخافهم الأنظمة الاستبدادية وقوى الظلام؟
ملخص تنفيذي
إذا كان هنالك من نتائج توفي التعريف بحقيقة الشعوب الحيّة؛ فإنها وبالمقايسة التاريخية- المعاصرة- الحديثة؛ لحركية الشعوب نفسها؛ ستكون: الشعوب المنتظمة. وأما بالالتزام الذي يخلق عن طريقه الشعب المنتظم فإنه ينقسم بدوره إلى منحيين؛ أولاهما: الشعوب المُلْزَمة بما يوحي لها خارجياً؛ يقوم الخارجي نفسه بالتمهيد لذلك وجعله متجرداً من حرية الاختيار أو يصل إلى درجة لا يملك فيها رفاهية القرار، وثانيهما: الشعوب الملتزمة بحقائقها القصيّة الظاهرة أو المُغيّبة بفعل تنمطيات خارجية تريدها أن تَضُلَّ عن جذورها التاريخية؛ وتحقق بحقها مسائل التبعية ومن ثم الهيمنة المستدامة عليها. في وضع هذه الشعوب فإنها تجهد بقوة كي تستنبت وتستنبط ماهيتها. ولأننا نعيش في الشرق الأوسط؛ فإن نتيجة النتائج لشعوب ومجتمع الشرق الأوسط تؤكد بأنه أكثر منطقة يجب أن لا تحيا بدون التزام مع حقيقتها، وأن حالة الخواء الفكري هي الفاشية المدمرة لحقيقة الشرق الأوسط طيلة القرون السوداء التي مرت بها هذه الشعوب على مختلف ثقافاتهم القومية الكردية والعربية والفارسية والتركية والسريان الآشورية والتركمانية والأرمنية وغيرها؛ إلى جانب ثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية: اليهودية والمسيحية والإسلامية والآيزيدية والدرزية وغيرها؛ أيضاً.
يقول أوجلان: (فعلى كل نظام تتاح له فرصة الحل في الشرق الأوسط أن يقوم قبل كل شيء بالمحاسبة الأيديولوجية الناجحة للقوموية والجنسوية والدينوية والعلموية الوضعية. أما في مجال السياسة العملية؛ فعليه تخصيص حيّز لنشاط المجتمع الديمقراطي غير المتمحور حول الدولة بما يتماشى وغناه الوفير). وهنا يجب على الدوام توخي الدقة ما بين النزعة الجوفاء للمجتمع المدني؛ أي الدعوات التي تُفْرِغُ المجتمعات من مدنيتها باِسم المجتمع المدني والدعوة إليه، فيما يجب على النظام الذي تُتاح له فرصة الحل أن يكون مُدرِكاً لضرورة حقيقة الثقافة الديمقراطية المحلية؛ بل يجب العمل باضطراد على تطوير هذه الثقافة/ ات. أما أولى الوظائف النوعية التي يجب تأديتها غير منقوصة فتكاد تكون الخلاص من ذهنية الفرد المتمحور حول ثقافة السلطة والدولة التي تجذبه إليها وكأنه في حالٍ نومٍ مُمغنط. مثل هذه الذهنية هي طارئة لم تُخلق من أرض الشرق بل فرضت عليه وباتت تقليداً مستمراً منذ آلاف السنين، ويعتبر مثل هذا التقليد؛ اليوم؛ أكبر العوائق المعترضة/ المعيقة/ المعرقلة في درب الثقافة الديمقراطية.
سندرك حجم الإهانة الكبيرة التي نتعرض لها؛ بشكل يومي؛ حينما ندرك في البدء من أن النشاط الذي ينتج من تقليد الفرد المتمحور حول السلطة هو بمثابة التنكر من أصله المجتمعي وبالتالي فصل قيصري لإنسان الشرق الأوسط، وأن مجموع النشاطات التي تصدرها عوادم الذهنية السلطوية تشكل بحد ذاتها؛ ثقافة ثقافوية؛ نصبح من خلالها فاقدين لكل حركة، فنتحول بمجملنا إلى مجتمع خواء لا قيمة له؛ والغير يتعامل معه على أساس أنه كومة من اللحم والغاز يسكنها أناس بلا أفئدة ولا عقول؛ إنما فقط أفواه. رغم هذه الفظاعة فإنه من الشجاعة معرفة حقيقتنا الحالية؛ شرط العبور إلى حقائقنا التاريخية فالمستقبلية.
الأوجلانية من سوريا؛ والأزمة السورية من حلِّ الفكر الأوجلاني
وإذا كان السوريين مدركين بمجملهم أن سوريا في هذه اللحظات تنعطف بشدة كبيرة يساراً ويميناً لا يمكن لأحد التكهن بمصيرها وأين سينتهي بها هذه الأزمة، ولكنهم ما زالوا -من المفترض- أنهم يسألون أنفسهم؛ أية أسباب حملتنا إلى مثل هذه النتيجة؟ ومن المؤكد أن الأصوات السياسية- من المفترض أن تكون سياسية- تعلو وتصرخ بأن يتم وقف هذا التدمير؛ هم؛ أنفسهم من الأساسيين الذين أدوا إلى هذه النتيجة بعد تأكيدهم بأن النظام الاستبدادي آيل للسقوط، وسقوطه مجرد أيام. والنظام الذي وسم الحراك الثوري ومطالب الشعب بأنه متبوع لثلة إرهابيين، قابلته مصفوفات معارضة وأغلبها أوجدتها الصدفة؛ أي أنهم معارضي الصدفة، وفعل حركيّة التاريخ لا يحتمل الصدف. وبات كلا الطرفين إلى حد غير مقبول مرتهناً للماورائي وممثلاً لأجندة الدول التي تدعم كلاً منهما على حدا، ولا غرابة لو قلنا بأن حجم العاطفة الممارسة والرغبة التي سادت؛ زاد من حجم الارتهان على الجهات الخارجية؛ وبالأخص؛ منها صاحبة الخطوط الحمراء، فمن دولتين وحيدتين صدر أكثر من مائة مرة خطوطاً حمراء وصدّقها البعض لآلاف المرات، ولا غرابة لو قلنا أن حجم هذه العاطفة وهذه القيادات (من الطرفين) كان صانعاً مهماً لداعش كزمرة: موجودة؛ مستأجرة؛ مستباحة، في ظلّ التغيير المستمر لمشهد التحالفات طيلة السنين السبعة المنصرمة، وكانت الأحلاف بما تحمل من أكلاف في إعادة انتاج مستمرة، فتبدلّت المسميات كثيرة من أصدقاء الشعب السوري إلى التحالف العسكري الإسلامي إلى الضامنين إلى الرعاة وغيرها. ولأن المشهد ثوريُّ في البدء وفي المتن وفي النهايات؛ لم يحتمل وجود هذين القطبين فقط أو لنقل هاتين التكويرتين فقط؛ فكان؛ لا بد من نهج وطريق ثالث: ليس مع النظام وليس مع المعارضة التي تشبه النظام في كل شيء وتختلف معه من يكون في السلطة فقط، والطريق الثالث الذي ظهر في روج آفا/ شمال وشرق سوريا؛ مكروه؛ محقود عليه؛ تتجنبه التكويرتين، وببساطة تخاف منه. على عكس التاريخ وشعوبها الظمآى فإنها تدرك وحدها معنى الحرية، والكُرد أكثر الشعوب في العالم عطشت لمذاق الحرية لأنها لم تعرف مذاقه، ودأبت في كل مراحل تاريخه مع الشركاء- من المفترض أنهم كانوا شركاء- لصناعة حرية المجتمع المتعدد. وبالرغم من أكثر من مليون كردي قتلوا في القرن العشرين وحده؛ لكنهم بقوا خارج الدوائر، وفي الوقت نفسه بقيت الشعوب الأخرى تعيش في سجون كبيرة مدراءها قيادات سلطوية ارتهنت أيضاً للخارجي الماورائي، وفعل الحرية لم يتعرف عليها السوريين أيضاً، وقد حدث جنيف واحد وانعقد جنيف اثنان وتعثّر جنيف ثلاثة، وفي كل فشل ارتفع فيه منسوب تبعثر السوريين في كل حدب وصوب وتدمرت سوريا.
من المفيد أن نتناول قضية الفكر الأوجلاني في الحل السوري بالكثير من الواقعية؛ الأخيرة لا تصلح مع أصحاب الرغبات؛ مع أصحاب المواقف المسّبقة؛ مع الرؤى الاستعلائية القوموية، مع الكيديين ومع أحفاد آنكيدو. وحين الخلاص من هذه العُقَدِ؛ بالإمكان أن نتعامل اللحظة –بشكل مخصوص- بأننا أمام نهج الأوجلانية/ الأوجلانيزم. ومن الخطأ الاحاطة بهذا الفكر على أنه مقتصر على الكرد وحدهم. لأنه أي هذا الفكر أول ما ينطلق يتناول الحالة المستعصية للشرق الأوسط؛ أزمته؛ نكوصه؛ الاستيلاء على ثقافته، وسرق حضارته. ويطرح مفتاح حل قضية/ مشاكل الشرق الأوسط ليس في الحالة الجديدة أي في وضع الشرق الأوسط الجديد- هذه الحالة إنْ تكن فستكون بعد مرور أقل من خمس عقود مزدحمة بالمشاكل والاستعصاءات، وتكرار المشكلة مرة أخرى لكن بأسلوب آخر. وما يطرحه أوجلان هو الشرق الأوسط الديمقراطي ومفتاح حل القضية الكردية.
أن نرى اليوم يسارياً أو شيوعياً في صفوف جبهة النصرة مُلَمِّعاً فيها ويدفعها كي تكون هي المعارضة. أن نرى انتقالات ملحوظة وسريعة كي يقفز (مدافعاً) عن القومية العربية إلى أمكنة خلف الجماعات الجهادية الاسلاموية. أن نرى قفزات بالجملة وبالمفرق تفي بالعودة المحمومة إلى حضن النظام بعد سنوات من العداوة أو إظهار المعارضة له. وغيرها من الأمثلة التي تعد بالمئات. يعني ما يعنيه بأن الفكر هو الخاطئ. وما يظهر من بعد الفكر الخاطئ يمكن تصنيفه بخانة الممارسة الخاطئة والتوغل في الفكر والاصرار على جعله بمقاس حل المشاكل التي نعانيها.
جان فالجان في رواية البؤساء لفكتور هوغو خرج من السجن بعد بقائه تسع عشر عاماً. التهمة هي سرقة رغيف خبز. بعد اطلاق سراحه؛ يصبح شخصية مؤثرة في المجتمع إلى درجة كان ينظر له بأنه المخلّص. في منتصف شباط المنصرم أمضى أوجلان تسع عشر عاماً في سجنه بتهمة تبدو حقيقة اليوم لأنه استرجع الخبز الذي سرقه الديكتاتوريين والسلطويين والفاشيّات التي باتت تشكل عبأ على شعوب المنطقة إلى شعوب المنطقة. وهذه الشعوب وحين ترى اللحظة المناسبة تبدي عزماً وقوة أن تسقط عروشهم. وقد سقط بعض منها. لكن؛ الكثير منهم ما زالوا.
الرقة تحررت. وما قبلها من مناطق تحررت، وتتحرر اليوم دير الزور . وما يحدث اليوم في عفرين التي ستنتصر لا محال؛ فإن كل ذلك كان ويكون عن طريق بنادق تُطلقُ من سواعد تحتكم لعقول مؤمنة بفكر الأمة الديمقراطية. بفكر أوجلان. من بعد أن رأينا فكر التنظيم الإرهابي الداعشي قد حل محل الفكر النمطي القوموي. والذي جرى بعد مرور 135 يوماً من حملة تحرير الرقة وسيل من دماء شهداء قوات سوريا الديمقراطية بأن فكر العيش المشترك وأخوة الشعوب ووحدة المصير. والثورة بروح المرأة. وحرية المرأة يعني المجتمع الحر. وبهدف المجتمع الأخلاقي السياسي الأيكولوجي. يعني من خلال فكر أوجلان ومشروع الأمة الديمقراطية بتجسيده الإداري أي من خلال الاتحادية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا هو الذي انتصر. فيلسوف مسجون في السجون الفاشية التركية الداعمة للإرهاب والتنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة ومن يرتبط بهما. وتحرير الرقة أول ما يعنيه بأن المشاريع التي تتحارب؛ والمشروع الأوجلاني هو الذي انتصر. ومن الواجب الأخلاقي أن يتم الأخذ به وعده اليوم حالة فكرية فوق قومية. ليس للكرد فقط إنما لشعوب المنطقة برمتها. لأننا اليوم أمام أوجلانيون كرد وأوجلانيون عرب وأوجلانيون ترك ومن جميع الشعوب والثقافات. ومن شعوب أوربية أيضاً ومن غيرها أيضاً وأيضاً.
كتبت سابقاً؛ بأن الرسالة من رفع صورة أوجلان ليست في وارد الحقد إلى الشعب التركي لحظة. وليس أيضاً كما يعتقد بعض الواهمين بأنه إشارة إلى احتلال (كردي) لمدينة (عربية). وليس بالمشهد العبثي الذي يطلقه بعض من الأحياء المتوحدين في فترة سابقة. سابقة لا تعود. بأنه تحالف مع حزب ماركسي لينيني مع (الامبريالية) الأمريكية. مع العلم بأن التحالف حدث قبل ستين سنة ما بين روزفلت وتشرشل (الرأسماليان) وستالين (الشيوعي) ضد الظاهرة الفاشية النازية. من لا يدرك ما هو الانعطاف في التاريخ؛ عليه أن يراقب حتى يحين وقت الطرق اليسيرة المستقيمة. في العموم الكرد ليس من استجلب (الاستعمارات) إلى المنطقة؛ الشعوب تملك ذاكرة جمعية قوية على جميع النقاط والمفصليات التي راكمت وأحدثت المشهد الحالي. وشعوب الشرق الأوسط بات المميز لديها ذواكرها فقط؛ طالما كانت الأنظمة المستبدة تحجب عنها المستقبل. لكن يبدو بأن مثل هذا الحجب بات في معرض التشقق والاهتراء. الرسالة من رفع صورة أوجلان بأن عاصمة لدولة ارهابية أساءت أول ما أساء إلى شعوب سوريا. وشعوب المنطقة. والشعوب في العالم. ولأن داعش لم ينبت من الفراغ، ولم يأت من الهواء، ولم يسقط من السماء. فإنه سيعود ولو باسم آخر؛ والاصرار في عدم عودته يعني الاحتكام إلى مشروع أقوى منه. وهذا سيكون الدّال الأساس في كيفية تجفيف منابع الإرهاب الفكرية. واليوم بدل من الاستمرار في حملات التشويه والتشكيك بمشروع أوجلان؛ من الدهاء أن يتم التعامل مع هذه المرحلة وفكر يخلق الديمقراطية التي نحتاجها. نتعرف عليها وتتعرف علينا وجه لوجه. ومن الفكر الأوجلاني تخرج جميع الثقافات منتصرة، وجميع الانتماءات على قدر متساوي في الحقوق والواجبات. من الممكن انصافاً أن نطلق على هذه المرحلة بأنها المرحلة الأوجلانية.
مرة أخرى: لا ننتمي إلى الحرب على أساس الشيعة والسنة، ننتمي إلى احترام العقائد وتعايشها السلمي وفق عقد اجتماعي جديد لعهد جديد. من سوريا الانطلاق. فمن شمال سوريا وروج آفا صار الحل. وإذا ما كان أفضل دلالات وجود اللون الأبيض هو اللون الأسود. فيكفي أن نعلم بأن معاداة تركيا ومن ينفذون أجندتها (في أية جغرافية يكونون) لفكر معين؛ دلالة متقدمة بأن الفكر الذي تعاديه هذه الجهة/ الجهات؛ في أنه فكر صحيح يؤخذ به ويعتد به ويؤسس عليه.
الكرد في سوريا الذين يؤمنون بفلسفة أوجلان قدّموا أنفسهم من خلال صيغة يؤخذ بها لتشكيل حالة الانتماء الوطني/ الحالة فوق الانتماءات الأولية. من الخطأ بل من الخطيئة أن يقول أحدهم ما دخل الكرد بتحرير الرقة وهي المدينة العربية؟ هؤلاء من يقسّمون سوريا. الكرد في سوريا الذين يؤمنون بفلسفة أوجلان عينهم على دمشق؛ حتى تتوسع سوريا على كل السوريين وتحل جميع قضايا شعب سوريا الذي يتألف من العرب والكرد والسريان الآشوريين والتركمان والأرمن والشركس … مسلمين ومسيحيين وإيزيديين؛ وغيرهم من الانتماءات الأولية التي هي ثقافات مهمة لتشكيل ثقافة كليّة مشتركة، والجميع ينتمي لها ويفتخر بها. وهذه إحدى مبادئ الأمة الديمقراطية الأساسية التي تؤكد على القيم المتصالحة مع التاريخ وفهمه بشكل مضطرد ليس سوى بالطريق الذي يؤدي إلى الانتصار الجمعي. الأهم في المسألة برمتها أن لا نحيا بدون فكر. الشعوب غير المفكرة هي التي تتحول إلى نواقل وقنابل موقوتة تفجر قيمها وتاريخ مجتمعاتها. وهذا هو التفسير الأنسب للالتزام بالفكر الأوجلاني ورفع صورته وراية قوات سوريا الديمقراطية في الرقة المحررة. وحتى طول تمثال الحرية في نيويورك ربما ارتفع متراً يُضاف إلى طوله الذي يبلغ 46 متراً من بعد تحرير الرقة بدعم التحالف الدولي العربي /73 دولة/ بقيادة أمريكا. وهذا الشيء ربما يكون من نصيب الساحة الحمراء في موسكو؛ أيضاً؛ في حال حدث تحالف مع التحالف الدولي الحالي؛ يدعمون كليهما قوات سوريا الديمقراطية من أجل تحرير إدلب؛ أيضاً؛ في فترة لاحقة قريبة. وحينها تكون الأيدي؛ كما هي الآن؛ ممدودة إلى من يجد نفسه المعنيَّ بإيجاد الحل السوري وصناعة سلام ما بعده سلام في سوريا الاتحادية الديمقراطية.
تعريف جديد للشرق الأوسط: بأنه الديمقراطي. ونهضة المجتمع فيه تتحقق عن طريق مقاربته القصوى للأيكولوجيا
المراقب لمسرح الشرق الأوسط السياسي يجده على فصول كثيرة متناقضة وعدائية؛ مشهد لا يطيق الآخر؛ بل يلغيه من بِكرة أبيه. والفصول التي رأتها مجتمعات الشرق الأوسط؛ كانت على الدوام نمطية؛ وعلى الدوام فإن دوافع السلطة التي تبديها نمطية ثقافية معينة تظهر مع ديمومتها بأن تسلك مسلك الفاشية. وعلى الرغم من وجود تنويع بين هذه الفصول وتناقض ظاهر ما بينها وأنها إذا ما اجتمعت سوية فإن الثالث يكون الحرب؛ إلّا أنها ودون أن تنتبه؛ تستخدم المصطلحات نفسها؛ المسميّات نفسها؛ الأساليب نفسها؛ ….؛ بغية الوصول إلى النتائج نفسها: أن تبقى لوحدها؛ وغيرها المختلف: لا. فالمحاسبة الأيديولوجية الناجحة هنا بأن الشرق الأوسط لا يتألف من قومية واحدة والسلطة التي تنشأ في حال اصرار إحدى القوميات أن تظهر كذلك في ثنيّاتها؛ فتكون قوموية فاشية على حساب إفناء غيرها؛ والأمثلة كثيرة هنا كما حال التقسيم المفروض على الشرق الأوسط قبل مئة عام لأول مرة منذ خمسة آلاف عام. وعلى يدي حرّاسه حرّاس الخرائط من أفكار وجمهور موبوء بالدولتية القومية.
كما أن الشرق الأوسط ليس مؤلفاً من دين وحيد؛ وأنه مهبط الأديان السماوية والأرضية؛ وأية سلطة دينية تظهر وفق ذلك؛ لتبدو بأنها على حساب إنهاء الأديان والمعتقدات الأخرى. وبنوع غير معقد من التفكير هنا؛ نجد بأن مقترفي مثل هذا التنميط فإنهم يعادون المصدر الأوحد للأديان قبل معاداتهم للمتدينين. وأيضاً الأمثلة نجدها كثيرة هنا؛ آخرها؛ ما اقترفته الجماعات التكفيرية الدينوية ضد معتنقي المعتقد الأيزيدي في شنكال/ سنجار.
والمحاسبة الأيديولوجية الناجحة هنا بأن الشرق الأوسط لا يتألف من دين وحيد بل مجموعة من الأديان آخرها كان الإسلام وأولها الفاعل كانت الزرداشتية. وأن الصيغة الأنسب كي تتعايش هذه الأديان لا بد من البحث عن صيغة مثلى للمجتمع الديمقراطي والتي تبدو فيها الدولة بصفة تمثيلية غير متبوعة لدين معين؛ في مثال النظام السوري والذي يقر بأن دين رئيس الجمهورية (العربية) هو (الإسلام)؛ فإن مثل هذا القانون أصبح بمثابة سكين قسم مجتمع سوريا إلى العديد من الأقسام المنحجزة: لا للمرأة كي تكون رئيساً؛ لا لغير العربي أن يكون رئيساً؛ ولا لغير المسلم أن يكون رئيساً؟؟؟. ومرة أخرى بعيداً عن النزعة الجوفاء للمجتمع المدني التي بات يظهر غالب مناصريه تحت عباءة المواطنة؛ والأخيرة دعوة مبطنة إلى الفاشية؛ ولكنها تبدو مهزوزة مع كل ما تظهره من أبنية مُشيّدة.
عيدان ضعيفة للقنِّ وليست أعمدة للأوطان
ومع وجود فائض كبير لما آل إليه الأمر في الشرق الأوسط فإن مجتمعاتها باتت مستهلكة ريعية؛ من شدة ما استبدت بها أنظمتها السلطوية الاستبدادية إما القوموية أو الدينوية ولما لكليهما من تعنيف مجتمعي على العنصر الأكثر قدرة على التغيير والممثل بالمرأة؛ لذا نجد ملاحظة كبيرة في استطاعة استيراد العلموية الوضعية وليست العلمية البيئية على أشده؛ هنا مرة أخرى تستوجب المحاسبة على يد من يملك مشاريع النهوض والتنوير والتنمية؛ فالانتقال إلى الاستقرار والأمن.
وعليه فإن تعريف أوجلان للشرق الأوسط –انطلاقاً من ضرورة وتأكيد ضرورة إيجاد حل ديمقراطي للقضية الكردية- بأنه ديمقراطي في تاريخه وفي حاضره ولا يمكن أن لا يكون إلا ديمقراطي في مستقبله؛ وأنه أي الشرق الأوسط مجموع من الثقافات المتكاملة وليس مجرد قوميات متناحرة؛ علماً بأن الحق القومي أكثر صوناً في مثل هذا التعريف؛ كما حق المعتقد والدين وغيرها من الحقوق الإفرادية أو الجماعية. وأن الوصول إلى حالة الشرق الأوسط الديمقراطي يلزمه محرك نهوض معرفي؛ خاصة إذا ما أدركنا بأن الأزمة التي نعيشها معرفية بالدرجة الأولى؛ وأن محركات النهوض في تحطيم الحدود المفروضة على شعوب الشرق الأوسط؛ ولكل شعب الحق في العيش بشكله شبه الاستقلال السياسي والاقتصادي، وأن الحالة المثلى لشعوبه هي في الاتحاد الكونفدرالي لها؛ ذلك عن طريق الفيدراليات الديمقراطية؛ مثال ذلك: الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا على أساس الجغرافية وإرادة شعوبها.
في الحقيقة فإن مقاربة أوجلان على ربط حل عادل للقضية الكردية بالقضية العامة في الشرق الأوسط المتمثلة بدمقرطته؛ ربط محكم رصين؛ والتفسير الأكثر مسؤولية في ذلك بأن الشعوب تمتلك وعياً لا تستطع الأنظمة أو الجماعات الاستبدادية أن تنال منه، وبفضل مثل هذا الوعي فإنها تظهر بدورها مسؤوليتها تجاه الشعوب الأخرى؛ طبقاً لفترات تاريخية من العيش المشترك فيما بينها؛ تحتِّم عليها أخوّة واحدة ومصير متوحد.
الحرية؛ الاستقلال؛ الدولة
من المؤكد بأنه وفي كل لحظة، توجد مطالب على شكل تساؤلات استراتيجية لم يتم حلها بَعْدُ، ومثل هذه التساؤلات تحتاج إلى إجابات أو حل مُرْضٍ قبل الحديث عن أي شكل من أشكال الاستقرار، غالبا ما تكون التساؤلات بجذور تاريخية عميقة (داخلي المنشأ) ومرتبطة في الوقت نفسه بنمطية صراعات معاصرة على النفوذ (خارجيُّ النفوذ). وفي هذا السياق فإنه يتعذر تعريف القضية الكردية بحالتها الراهنة فقط وهذا لا يتعلق بسبب تفاصيل الحل المحلي فقط والمتعثر بدورها بطغيان الرفض الأغلبي من قبل السلطات الأخرى ومن يمثلونها؛ بعد أعمائها بالنفور والتشوفن طيلة السنين الماضية؛ بل بسبب وضعها الراهن المعقد وتحولها إلى ملف دولي؛ أيضا. ومن الخطأ ربط الحل باللّاحل: التقسيم والدولة؛ وإن كانت كذلك سنطرح السؤال الاشكالي الأول: هل استطاعت كل الدول المستحدثة في الشرق دون استثناء أن تكون جالبة للتغيير وللحقوق وللمواطنة الحرة وأن تحقق الفردية الندية؟ لبنان كدولة؛ سوريا كدولة؛ السودان كدولة؛ تركيا كدولة…. كل الدول الشرق أوسطية كدول؛ هل استطاعت أن تحقق الجمال الاجتماعي والحق الاجتماعي كجزء أساسيٍّ من المهمات الواجب أن تحققها لشعوبها؟ وحتى تكون الدولة؛ تلزم السلطة، والسلطة دائما على باطل خاصة إذا ما تم أخذ عامل الزمن بعين الاعتبار؛ زمنية تشكيل الدولة وديمومتها التي حتى تكون؛ لا تكون مفاهيم مثل: الثقافة والمدنية والسياسة والأخلاق والقانون والديمقراطية المباشرة والاقتصاد بالمتناول الحقيقي الملموس ومعمول بكل هذه الأساسيات المجتمعية وفق قوانين ناظمة لروح المجتمع. وإذا أخذنا الأزمة السورية الحالية وفق هذا الفهم فإن أي مشروع حل سياسي لا يراعي هذه الحالة أو (المظاهر الظرفية التاريخية في سوريا) سيكون بمثابة إعادة انتاج للاستبداد – ربما- في صيغة الوسطية الظاهرة ذات البنية المتآلفة مع الصيغ المستبدة القديمة. وإذا تم الاعتبار بأن الكرد كقضية على أساس ثالوثها (الأرض والشعب والتاريخ ) بحاجة إلى الحل؛ يفرض على الدوام اشكاليات الحل والأسئلة الناجمة عنها: هل يكمن الحل في تأسيس الدولة الكردية؟ وإذا كان هو الحل؛ ما الغاية من الدولة؟ وإذا كانت غايتها هي مقايسة الذات الكردية المُغيّبة من قبل الاستبداد بكل أنواعها وتحقيق الحق الكردي؛ فهل سيكون عبر استقلال الجغرافية فقط أم عن طريق تحقيق الحرية؟ بل هل نجحت الدول الناشئة أو التي تم تنشئتها في جلب التحرير لمجتمعاتها؟ ألم تتحول دول سايكس بيكو إلى المؤسس لسجون احتجزت فيها شعوبها، وبدا رؤسائها كسجانين؟
ليس من الصواب القول بأن أوجلان يدعو إلى انهاء الدولة؛ ستكون نظرة دوغمائية صرفة، أوجلان يدعو إلى ذلك عن طريق تطور الشعوب حتى تصل إلى درجة الاستغناء عن أن تبدو السلطة هي الوصية وأن ابنائها هم قُصَّرٌ لا تستقيم أحوالهم إلا بوجود قوة الدولة أو قوة السلطة؛ هذا مفهوم تشكيكي بالإنسانية ويذكرنا بهوبز وضرورة وجود اللوثايان/ السلطة الصرفة المستمدة من الإله. فالحقيقة تكمن هنا بأن حاجة السلطة في الدولة إلى شعوبها. وليس العكس كما حالاتها اليوم؛ ومثل هذه الحالة يلزم زمناً طويلاً له العلاقة في تحقيق المجتمع الديمقراطي من بعد اجراء محاسبة براديغما ديمقراطية ناجحة له. لأن المجتمع يتألف من عدد هائل من المؤسسات والكومينات والمجالس في القرية وفي الحي وفي المدينة؛ لنرجع إلى البداية التي انطلقنا منها: الشعوب الحية الملتزمة.
أوجلان يفصل بل يحرص أن يفصل بين الحرية كقيمة مجتمعية أفقية وربطها بالدولة كظاهرة فرعية علوية. من يرى عكس ذلك فلينظر إلى حوله وليشير بإصبعه إلى وجود مجتمع دولتي لم يخلق من وفي أحشائه الجريمة وعدم المساواة وكل الضد من الديمقراطية. نعتقد –خاصة اليوم- بأن ذلك الإصبع يبقى مرفوعاً في ظل هذه الخربطة العالمية وكأنها المقبلة كي تُلْفَظ اليوم بشكل كليّ في دوامة العنف. من العصيِّ أن يسلم منها حتى الحجر.
أوجلان الذي يفرض بحقه عزلة؛ قال في آخر لقاء رسمي معه/ قبل أكثر من ثلاث سنوات: احتاج إلى 180 يوماً كي أُأَسسَ لعملية السلام في تركيا. بينما تصّر الأنظمة الاستبدادية: القومية والدينية؛ والقومودينية؛ والقومية البدائية؛ التي يمثلها اليوم (السلطان) أردوغان الرهيب بكل توابعه. أردوغان الذي فيما لو تُرك الأمر بيده فإنه يؤسس إلى 180 عاماً أخرى من الإبادة والإنكار/ الخراب بحق جميع شعوب الشرق الأوسط؛ بالأخص منهم الشعب الكردستاني.
الكتل العدمية خسرت الرهان في اعتقال أوجلان: قائد وقضية.