فقدت الولايات المتحدة جزء من مصداقيتها أمام حلفائها وشركائها في العالم بسبب سياسة ترامب الاقتصادية وضعف إدارة أوباما، قابلها تمدد روسي صيني الذي بات يهدد مصالح الولايات المتحدة في العالم وبالأخص منطقة الشرق الأوسط ومن بينها سوريا، ومع مجيء إدارة جو بايدن بدأت الولايات المتحدة تعمل لإعادة مكانة الولايات المتحدة والوقوف في وجه التمدد الروسي. فقد اعتبر لويد أوستين وزير الدفاع الأمريكي أن روسيا والصين تسعيان لتوسيع نفوذهما في الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة “من خلال زيادة مبيعات الأسلحة بهدف دق إسفين بيننا وبين شركائنا”. وذكر إن بين المجالات المحتملة للتعاون مع روسيا الرقابة على الأسلحة ومحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وتسوية النزاعات العسكرية في المناطق التي تعمل فيها القوات الأمريكية والروسية على مقربة من بعضها البعض. وهذا مؤشر واضح على أن الملف السوري سيكون من أولويات إدارة بايدن كون سوريا بموقعها الاستراتيجي تشكل بوابة لتمدد الروسي في الشرق الأوسط. فروسيا بتدخلها في الأزمة السورية حولت سوريا إلى قاعدة عسكرية متقدمة مزودة بأحدث الأسلحة ” منظومة S400 وS300 وطائرات قتالية وقاذفات Mig-Su ومروحيات هجومية وطائرات مراقبة واستشعار، وبسفن حربية مزودة بصواريخ كاليبر المجنحة وتوسيع قاعدة طرطوس البحرية وتعزيز القاعدة بمضادات للغواصات وحالياً تقوم بإجراء تعديلات على المدرج في قاعدة حميميم، مما يتيح استقبال طائرات استراتيجية بعيدة المدى وقادرة على حمل أسلحة نووية في القاعدة الروسية “، وهذا من شأنه أن يغير التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط لمصلحة روسيا ويهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى جانب نجاح السياسة الروسية في دق اسفين بين الولايات المتحدة وتركيا بشراء الأخيرة منظومة S400 الروسية.
ولمواجهة الخطر الروسي قررت الولايات المتحدة إبقاء قواتها في مناطق الإدارة الذاتية بعد إعلان ترامب سحب قواته من سوريا وتوسيع بعض قواعدها وتزويدها بأسلحة حديثة. وفرض الولايات المتحدة عقوبات على النظام “قانون قيصر” إنما هي موجهة بالدرجة الأولى نحو روسيا، بهدف جعل سوريا مستنقع للتواجد العسكري الروسي من خلال زيادة الضغط الاقتصادي عليها وحرمانها من الاستفادة من الثروات السورية، لذلك تحاول روسيا بشتى الوسائل ” حشد دولي ” الضغط على الولايات المتحدة لرفع العقوبات بحجة سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سوريا. كما أن قيام الولايات المتحدة بتزويد اليونان بالأسلحة الحديثة يمكن إدراجها ضمن إطار تطويق التواجد العسكري الروسي في سوريا. لذا فالتواجد العسكري الأمريكي في شمال وشرق سوريا لا يقتصر فقط على تنفيذ قرار 2254 والبدء بعملية التحول السياسي في سوريا ومحاربة تنظيم داعش بل يكمن في وقف التمدد الروسي العسكري والاقتصادي في المنطقة إلى جانب التمدد الإيراني وحماية أمن إسرائيل، وهو ما عبر عنه “أوستين” الذي أشار إلى أنه من بين المهام الرئيسية بالنسبة للولايات المتحدة “ردع روسيا والحد من عملها ضد المصالح الحيوية الأمريكية، بما في ذلك حماية حلفائنا من العدوان العسكري”. لكن السياسة الأمريكية تجاه تركيا العضو في حلف الناتو تختلف من ملف إلى أخر، فالولايات المتحدة ترى في الاجتياح التركي الأخير لمناطق شرق الفرات “كري سبي وسري كانيه” بأنه ترك أثاراً سلبيةً على التواجد الأمريكي وسمحت بالتغلغل الروسي في المنطقة إلى جانب صفقة S400، ومن جهة أخرى فأن الولايات المتحدة تدعم تركيا في إدلب وتمنع روسيا والنظام من القيام بأي عملية عسكرية واسعة على إدلب جاء ذلك في تغريدة نشرها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس” أوضح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستدعم موقف تركيا في إدلب من أجل استمرار الهدوء في تلك المنطقة خلال الفترة المقبلة. أي استمرار الدعم الأمريكي للوجود التركي في إدلب. لذا فالتحدي الأكبر لإدارة جو بايدن وإدارته في سوريا هو الدور التركي في سوريا وانحيازها لروسيا في الأزمة السورية، وفي كيفية انهاء الخلافات الأمريكية التركية. فقد تحدثت وسائل إعلام عربية وغربية عن وجود صفقة تلوح في الأفق بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، مشيرة أن الصفقة المحتملة والتي تروج لها تركيا تتعلق بإيقاف واشنطن دعمها لقوات سوريا الديمقراطية مقابل تخـلي أنقرة عن استخدام منظومة 400S الروسية بشكل موسع وعدم شراء دفعات جديدة من هذه المنظومة. إلا أن المعطيات لا تتفق مع هكذا صفقة، فإذا كانت الولايات المتحدة تمنع روسيا والنظام من القيام بأي عملية عسكرية على إدلب والتي هي معقل الجماعات الإرهابية الأجدى بها الحفاظ على مناطق الإدارة الذاتية التي هي شريكتها في مكافحة الإرهاب من التمدد الروسي، كما أن هناك ملفات أخرى يمكن مقايضتها دون أن تخسر الولايات المتحدة شريكها في محاربة تنظيم داعش كملف العقوبات وملف فتح الله غولن وبنك خلق وملف إدلب …..، فالولايات المتحدة تدرك تماماً بأن تنفيذ المطالب التركية يعني خسارتها لقوات سوريا الديمقراطية وخسارة لمناطق نفوذها لصالح الروس، فالتواجد الأمريكي في سوريا مرتبط بشراكتها مع قسد أما مقايضة شريكها “قسد” بـ 400S فهو امر مستبعد عند إدارة جو بايدن فالإدارة الأمريكية السابقة ” إدارة ترامب” كانت مناسبة لعقد هكذا صفقة بحكم العلاقات الشخصية التي كانت تجمع الطرفين، إلا أن ذلك لم يحدث.
لذا فالإدارة الأمريكية الجديدة التي تعمل على إعادة مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية وكحليف موثوق ستعمل على إعادة ترتيب سياستها الخارجية وانهاء الخلافات بين دول الحلفاء والحفاظ على شركائها دون المساس بمصالحها الاستراتيجية حتى تكون قادرة على مواجهة التمدد الروسي والصيني، وبالتالي فالسياسة الأمريكية وتواجدها في سوريا أمام خيارين:
الأول: التواجد الدائم في شمال وشرق سوريا: ويدخل ضمن نطاق الوقوف في وجه التمدد الروسي وعدم السماح لها بالانفراد بسوريا فالوجود. فالقوات الأمريكية ستبقى في مناطق الإدارة الذاتية سواء تم الوصول إلى حل سياسي ينهي الأزمة السورية أو استمرت الأزمة.
الثاني: الانسحاب من سوريا ويكون إما عن طريق:
تسليم ملف مكافحة تنظيم داعش لتركيا: عن طريق تسليمها قيادة التحالف الدولي لمحاربة داعش “وهو ما أشار إليه ترامب بعد الاجتياح التركي لمنطقتي كري سبي وسري كانيه وهذا يتطلب فك تركيا ارتباطها مع روسيا وحصول عملية سلام بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية كونها القوة الفاعلة على الأرض لمحاربة تنظيم داعش.الوصول إلى اتفاق مع روسيا: وقد ينص مقابل الانسحاب الامريكي من سوريا انسحاب روسي شبه كامل “سحب الأسلحة المتطورة 400S والطائرات الحربية وتقليص عدد القوات الروسية” وتحويل سوريا إلى منطقة منزوعة السلاح إلى جانب الانسحاب الإيراني والتركي وتنفيذ القرار الدولي 2254 مع تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
فالسياسة الأمريكية في سوريا وتواجدها العسكري في سوريا أما أن يكون مرتبط بالأزمة السورية والوصول إلى حل سياسي وفق القرار 2254 ومنع ظهور تنظيم داعش بالتوافق مع روسيا أو تركيا، وبالتالي فأن التواجد العسكري سيكون مؤقتاً. وأما أن يكون مرتبط بالتواجد العسكري الروسي في سوريا والتمدد الصيني الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فأن تواجدها مرتبط بأمنها القومي وحماية مناطق نفوذها، هنا سيكون التواجد الأمريكي طويل الأمد واستراتيجي خاصة مع فقدان الاستقرار في العراق والمفاوضات الجارية مع حركة طالبان لسحب قواتها من أفغانستان.
NRLS