أخبار عاجلة

عن “اللغة الأم”.. وموقف بعض الكرد الذين باتوا أكثر من “جيدين”

رأي روز برس

إن محاولة فهم وتفسير العلاقة الوثيقة بين اللغة والهوية هي مسألة أُثير الجدل حولها كثيراً، وفي مرات عدة، وصل المشتغلون في حقول العلوم الاجتماعية والفلسفة واللسانيات إلى استحالة فصم عرى طرفي المعادلة، لابل وعدهما البعض أنهما متلازمتان، تلازم الليل والنهار؛ إذ بدون لغة لا يوجد هوية بكل تجلياتها، كذلك لا يمكن للهوية أن تنجلي وتبرز وتعبر عن كينونتها بدون لغتها.
وعبر فترات طويلة جهدَ أعداء الكرد لطمس اللغة الكردية؛ وذلك بِنيةِ استهداف الهوية الكردية ومحاولة تغيبيها ودثرها، لكن تلك المحاولات جميعها فشلت، لابل وزادت من تشبث الكردي بثقافته وهويته.
ويوصف التشبث بالهوية واللغة بالحالة (العامة) للمجتمعات، على أنه نتاج لشعور جمعي مرتبط أساساً بإحساس مرده تماس مباشر بمسألة الوجود واللاوجود.
أما في حالات أخرى، كالحالة الكردية (خاصة) فهذا التشبث باللغة والهوية، يأخذ أبعاداً شاسعة، كونه مرتبط بمسائل وطنية وجيوسياسية، وثقافية، وتراثية، وفلكلورية، هذا عدا عن ارتباطه بتضحيات الآلاف من الكرد في سبيل تحقيقها، والسبب، أن كل واحدة من تلك الأبعاد تعتبر قضية بحد ذاتها يسعى الكرد وعبر أجيال لحلها.
وربما في مجتمعات أخرى كما في (كندا) مثلاً تجد أن هذا الشعور يخفت أو يكاد لا يكون جمعياً على الأقل، لكنه حتماً ظل محصوراً ضمن فئة نخبوية معينة تنظر بذات الحساسية التي ينظر إليها (الكرد غير الجيدين) ولهذا أسباب أيضاً، وهو أن تلك المجتمعات قد تشعر أن القفز فوق (اللغة الأم) وتجاوزها والعبور من بوتقتها الثقافية والانعتاق منها، هو بمثابة حالة من (الترف) بكل معانيه وتجلياته، وبالطبع هناك أسباب منطقية تدفعهم لذلك، ومن المرجح أن هذه الأسباب هي أسباب مرحلية وليست دائمة، ومنها اقتصادية تجارية وتسويقية وثقافية وسياسية (كما في الحالة الإماراتية) كون تلك المجتمعات مجتمعات مستقرة سياسياً وثقافياً وجيوسياسياً، وهذا مالم يتحقق للكرد بطبيعة الحال.
ولذلك نجد أن الشخصية الكردية متعطشة (للوجود اللغوي) لما حاق بها من مظلومية، والتي تغيب ملامحها أحياناً عند بعض الكرد، ولكنها تظهر بقوة حينما يحاول الكردي تلمس هويته وكينونته اللغوية، كما حدث مع كرد سوريا عندما منع حزب البعث الكردَ التفوه بأية كلمة كردية.
داعش، كذلك الأمر لعبت على هذا الوتر، ولكنها مُنيت هي الأخرى بهزيمة نكراء؛ حينما قاموا بإطلاق تسمية (عين الإسلام) على (كوباني) باعتقادهم أن هذه التسمية -في حال انتصارهم- على الكرد ستخلق ردة فعل لدى الشخصية الكردية تدفعها للتمسك بتسمية (عين العرب) ولكن ما حدث بعد ذلك، وهو عكس ما خطط له مشغلو داعش، وهي أنها بقيت كوباني ولا يمكن إلا أن تكون كما يحلو لأهلها تسميتها والتغني بها.
فهذه الجزئية في ممارسة داعش تجاه الكرد، يجب ألَّا يُنظر إليها فقط على أنها ممارسة حمقاء طوباوية من مجموعة راديكالية، بل إنها نتاج بعد قومي حاقد ضد الوجود الكردي وليس نتاج حالة دينية فقط.
ومن خلال النظر إلى أهداف المجلس الوطني الكردي، وممارساته السابقة، وكيفية تعاطيه مع القضية الكردية لا نتفاجئ بمطالبته إعادة مناهج الحكومة السورية في شمال وشرق سوريا.
ولا نتفاجئ أيضاً بإعلانه الصريح للمطالبة بإغلاق المدارس التي تقوم بتدريس اللغة الكردية في شمال وشرق سوريا.
فهولاء (الكرد الجيدون) يريدون إضعاف الحامل البشري للثقافة الكردية وتفتيته، يريدونه تابعاً ضعيفاً بدون هوية وبدون لغة وبدون وجود، مفصولاً عن ماضيه، في سعي منهم لجعله تابعاً (كما هم) لا بل ويغض مضجعهم أية محاولة لوجوده الفاعل سياسياً وثقافياً وعسكرياً، والأنكى من ذلك تهليلهم لقتلة الكرد، وتبريرهم مجازره بحق الكرد بدم بارد.
وبات ضرورياً اليوم، التمسك بالهوية واللغة، لأن اللغة هي الوعاء الذي يحفظ تاريخ وثقافة الشعوب ويحضنها، ويخلق لديها مناعة ذاتية متجددة من ماضيها، ضد ثقافة عصر ما بعد الحداثة والتي توصف بأنها (ثقافة عالمية) تريد صهر مجتمعات العالم أجمع بلون واحد وبصبغة واحدة.
يقول صامويل هنتجتون في كِتابه صدام الحضارات-إعادة صنع النظام العالَمي: “إنّ الثقافة والهويّات الثقافيّة والتي هي على المستوى العام هويات حضارية تشكِّل أنماطَ الصراع في عالَم ما بعد الحرب الباردة”.
ولذلك من الطبيعي، أن المُجتمعات الواعية في زمن العولمة، والتي أدركت مخاطر تتعلق بالهوية والوجود تسعى اليوم للبحث عن خصوصيّاتها الثقافيّة وهويّاتها الجمعيّة، بغية ضبطها ودعمها والتمسك بها مخافة من اندثارها.