من الصواب اعتبار اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث روسيا، إيران، وتركيا في موسكو بتاريخ 20 ديسمبر/كانون الأول 2016 بالاجتماع التأسيسي الفعلي لتحرك قطار الآستانات المنطلق صافرته الأولى تحت شعار (محادثات السلام السورية في آستانا) بتاريخ 23/24 يناير/كانون الثاني/ كانون الثاني 2017.
لاحظ من لاحظ بأن مجرد تحرك القطار أُفرِغ نصف من أقّلَه؛ أو بالأحرى من أوعز إليهم الركوب، ليخف حمل القطار تلقائياً وتتزايد سرعته كما حال اجتماع آستانا/ نور سلطان الأخير الذي عُقد بين وزراء الدول الضامنة الثلاث وفق تقنية الفيديو كونفرانس ليل 22 أبريل نيسان الحالي، فيبدو مقتصراً على ربابينها أو ربابنتها الثلاث.
لقد احتاجت موسكو منذ أن قررت التدخل في سوريا بطلب من السلطة السورية نهاية سبتمبر أيلول 2015 إلى غطاء سياسي تتفرد به، إذ طالما لم تلب جنيف السورية تطلعات موسكو بالرغم من رئاستها المشتركة لحل الأزمة السورية إلى جانب واشنطن، فرأت في آستانا سوريا درباً مفيداً لها، خاصة بعد تطويع روسي لتركيا إثر إسقاط الأخيرة لطائرة سوخوي في 24 نوفمبر 2015؛ أي بعد أقل من ستين يوماً من تدخل الدب الروسي في الكرم السوري.
ولو لم نكن أمام حقيقة لا مهرب منها، مفادها أن منطقة شرق المتوسط مقبلة على تغيير، وإننا نعيش اللحظة بداية التغيير؛ من دون استطاعة أحد التكهن بصيغة التغيير الأخيرة له؛ ربما بالغت موسكو وأخذتها حماستها وبروز وضعها الحالي الحاسم في سوريا؛ كي تكون آستانا المحطة التي لا يستطيع أحد القفز فوقها في سوريا؛ بأن جعلتها بمثابة أوسلو كدرب استجد بعد انطلاق مسار مؤتمر مدريد لمحادثات السلام الاسرائيلي الفلسطيني في 30 أكتوبر تشرين الأول- 1 نوفمبر تشرين الثاني 1991، فدروب المنطقة تتشابه لكنها لم تتطابق أبداً.
يأتي اجتماع آستانا15 بعد 45 يوماً من الزيارة الأخيرة للرئيس التركي أردوغان إلى الفيدرالية الروسية، وإعلانه مع الرئيس الروسي بوتين عن اتفاق الخامس من مارس/آذار المنصرم، والقاضي بوقف إطلاق النار في إدلب، بعد التقدم العسكري الكبير السريع للجيش السوري المدعوم إيرانياً روسياً، إثرِ سلسلة اخفاقات وانسحابات للجماعات المسلحة والنصرة المدعومة تركياً من ريف إدلب الجنوبي والشرقي وريف حماه الشمال الغربي، وما جعل هذا الاتفاق يبدو هشاً يكمن بالذي حصل بعيده مباشرة من خلال موجة التعزيزات العسكرية الكبيرة من قبل تركيا وفي الوقت نفسه من قبل روسيا وبشكل غير معلن من إيران.
وكأن الثلاثي يستعدون للخطوة المباشرة في اللحظة التي ينهار فيها الاتفاق، وما يعزز ذلك أيضاً ومؤخراً بإصدار كل من الضامنين الثلاث بيانات منفردة عقبّت البيان الذي صدر عنهم بشكل مجتمع، والإصدارات المنفردة لا تقوّض المتفق عليه أو الذي يبدو بحجم المتفق عليه في آستانا15وحسب؛ إنما يبدو أن الموانع التي كانت تمنع من فوح رائحة حربٍ باردة بين ثلاثي آستانا لم تعد موجودة اللحظة، وباتت غير القادرة أن تغطي على الخلافات الكبيرة بين الضامنين الثلاث إن المتعلق منها بالوضع السوري أو بالأوضاع الإقليمية والدولية على حدة.
من الصعوبة إن لم نقل من الاستحالة أن يستطيع الثلاثي الضامن من ركوب البيان الأخير الذي صدر عنهم في آستانا15، ويجدونها فرصة لتثبيت مواقع كل واحد منهم على الآخر، وفي الوقت نفسه إلى جانب الآخر/ الآخرين، فالثلاثي وبشكل خاص روسيا من تعلم بأن الدستورية السورية –بقدر أهميتها- غير قادرة على الاستمرار أكثر من ذلك؛ لأنها ببساطة تفتقر كي تكون ممثلة لإرادة الحل وممثل عن كل أطياف شعب سوريا، وبشكل خاص ينطبق ذلك على جانب المعارضة، فمن دون تمثيل لمجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في الدستورية السورية، وممثلي لقوى وأحزاب وشخصيات سورية ديمقراطية أخرى سيبقى مصير اللجنة الدستورية من إخفاق إلى إخفاق، أما بالذي ورد؛ وهو المتكرر دائماً؛ وحدة سوريا وسيادتها فإنه يبدو وبشكل خاص من أنقرة التي تحتل مناطق متعددة من شمال سوريا؛ المصنف في خانة النفاق السياسي، عن أي وحدة وسيادة يتكلمون؟ ومنذ آستانا 4 تقسمت سوريا تحت لافتة “مناطق النفوذ وخفض التصعيد” التي صدّرتها الآستانات السورية؟
ليس هذا وحسب، إنما مردُّ علوّ منسوب الحرب البادرة بين ثلاثي آستانا يعود إلى اختلاف مشاريع كل ضامن منهم ورؤاهم في سوريا والمنطقة على حدة، فروسيا التي تتنافس ثلاث تيارات في إدارتها:ـ الأوراسيون، الليبراليون، والقوميون المسنودون من قبل الكنيسة والجيش ـ تملك مشروعاً مختلفاً بل متناقضاً مع مشروع عثمنة المنطقة وفي الوقت نفسه مع مشروع هلال إيران الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق فبيروت.
وكيف أن ما جمع بين روسيا وتركيا من اثني عشر حرباً – فازت روسيا في أغلبها وليس كلها- فإنه وفي حال لو استطعنا تخيّل عدم وجود روسيا في سوريا فإن الصراع الدفين والحقيقي في وعلى شرق المتوسط يكمن ما بين تركيا وإيران؛ رغم نزوعهما الشديد إلى جعل الحدود التي تجمعهما ساكنة.
وإذا ما قدّرنا أن العلاقة الروسية الإيرانية تبدو الأكثر انسجاماً بالمقارنة مع العلاقة الروسية التركية فإنها في هذه اللحظات وفي المستقبل القريب ربما ستعدّ بالنسبة لهما بمثابة النقمة وليست النعمة؛ بسبب ما يتوسط بينهما من ملفات خلافيّة – ليس أقلّها من طريقة الحل في الملف السوري، وكيف يجب أن تكون سوريا المستقبل.
وصار البعض يفكر بأن النظام السوري بات نظامين على الأقل: نظام سوري روسي، ونظام سوري إيراني، تتفوق إيران أرضياً في هذه المعادلة الشديدة التعقيد، وروسيا في السماء السوري، والتنسيق الهائل بينها وبين أمريكا واسرائيل من جهة معقّدة أخرى.
سواء كانت حرباً باردة أو بالوفاق القسري عنوان ما يجمع بين ثلاثي آستانا؛ فإن آستانا15 كما قبلها؛ ربما كما بعدها؛ لا تحمل الجديد، وطالما كانت مقتصرة على تدوير زوايا خلاف الثلاثي الضامن أكثر بكثير من تناول الشأن السوري فإن مختصر حقيقة آستانات سوريا هو إرجاء الخلاف الهائل بينهم، وتصديره وفق الأشكال الحذرة التي يعمدها كل ضامن منهم على حدة، كما يتيقن المراقب للشأن السوري بأن ضمان أن يكون شركاء وحلفاء الأمس أصدقاء الغد أيضاً بات في محل شك، وعدم يقين فيما يخص ثلاثي آستانا.
ولكن مهما يكن الثابت الوحيد في سوريا هو المؤقت، فإن أي جهة مهما كانت وتكن، لا تستطيع أن تقف أمام عجلة التغيير التي تتحرك هذه اللحظات بشكل مرئي في المنطقة والعالم، وما إطلالة الكورونا مؤخراً لتكشف الضعف في بنى معظم الدول القومية شديدة المركزية، وبأن نظاماً سياسياً اقتصادياً عالمياً مناطقياً يتشكل، ويهدم كثيراً مما سبق، وما اعتقدناه ثابتاً ومبادئ، منه مبدأ المصالح الذي قامت عليه الدول المنضوية في تحالفات ومعاهدات متعددة، من جزئية بأن ما يجمع من اتفاقيات عسكرية وتجارية بين دولتين أو أكثر تقف دائماً للحؤول دون تصادمهما/ تصادمها، لقد هدّ الكورونا المستجد هذه المُسلّمة أيضاً، كما مسلّمات كثيرة نتأت من وستفاليا إلى الحرب العالمية الأولى والثانية، من أهمها مبدأ سيادة الدول.
آستانا علاوة من نقص حظوظ إشراق شمس الحل السوري منها، فإنها أصغر بكثير كي تكون منعكساً لعالمنا المتبدل والمتغير هذه اللحظات رأساً على عقب.
سيهانوك ديبو- ممثل مسد في مصر