في ظل تخبط الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً استطاعت مصر أن تنتهج سياسة خارجية متزنة وذلك للحفاظ على مصالحها المهددة في ظل التقلبات السريعة في المنطقة، في الوقت الذي تحاول فيه الدول الأوروبية حماية كيانها الحالي والمهدد بالتفكك، لاسيما بعد قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وتأتي فرنسا على رأس الدول التي لا تزال تحاول المحافظة على المصالح الأوربية في الداخل والخارج.
تربط مصر مع فرنسا علاقات تعاون في كافة المجالات والتي أدت بالتالي إلى تقارب وجهات النظر الفرنسية والمصرية في عدة ملفات إقليمية وكذلك إلى زيادة التعاون بين البلدين في عدد من الملفات الحساسة.
الأزمة الليبية والموقف الفرنسي المصري
تدعم فرنسا ومصر قوات حفتر إلى جانب روسيا والإمارات، كما تدعم مصر وفرنسا الحل السياسي في ليبيا ووقف إطلاق النار، وحذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القمة المشتركة التي عقدت بقصر الإليزيه بباريس أن الحوار مهدد من قوى إقليمية تسعى لزعزعة الاستقرار في إشارة إلى تركيا التي ترى أنه لا مصلحة لها في نجاح الحوار بين الأطراف المتنازعة كما تعتقد باريس، حيث أن زعزعة الاستقرار في ليبيا سيؤثر على مصر الجارة أيضاَ وسيقوي تركيا في البحر المتوسط وهذا يهدد المصالح الأوربية.
ملف الغاز والتنقيب التركي في شرق المتوسط
يعتبر هذه الملف الأكثر تعقيداً بين تركيا من جهة والاتحاد الأوربي ومصر من جهة أخرى فبعد أن أعلن الرئيس التركي أردوغان توقيعه مذكرتي تفاهم مع السراج في ليبيا وتوسيع نفوذه البحري في المتوسط، صرحت الخارجية المصرية بأن إقدام تركيا على أي خطوة دون الاتفاق مع دول الجوار في منطقة شرق المتوسط سيؤثر على الأمن والاستقرار في المنطقة، وأكدت على ضرورة التزام كافة دول المنطقة بقواعد القانون الدولي وأحكامه، فالاتفاق التركي مع السراج لا يسمح لمصر واليونان وإسرائيل وقبرص التنقيب دون أخذ الإذن من تركيا، وأعربت فرنسا عن رفضها لهذه المذكرة وقالت: “ليس من حق تركيا التنقيب قبالة سواحل قبرص والجزر اليونانية”.
الاعتراف بمجازر الأتراك العثمانيين ضد الأرمن
تقاربت وجهات النظر الفرنسية والمصرية في قضية مجازر الأرمن حيث أقر برلمان فرنسا عام 2011 م قانوناً يعتبر إنكار مذبحة الأرمن جريمة تستوجب العقوبة، كما أعلنت الحكومة المصرية بقيادة السيسي أنها اعترفت ضمنياً بالإبادة الجماعية للأرمن في 2019 م مما زاد من تدهور العلاقة بين تركيا ومصر.
المقاربة الفرنسية والمصرية بخصوص الحرب السورية
أكد السيسي أنه تم الاتفاق مع نظيره الفرنسي على تنسيق الجهود المشتركة للتوصل إلى حل سياسي في سوريا لحلحلة الوضع المتأزم في البلاد وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254. والسبب يعود إلى رغبة فرنسا بمنع احتلال تركيا لشمال سوريا، وترى فرنسا بأنها تملك الحق والذرائع التاريخية للمشاركة بحل الأزمة السورية فقد استمر الانتداب الفرنسي على سوريا أكثر من ربع قرن، أما مصر فترى أن زيادة التدخل والنفوذ التركي في سوريا سيكون بمثابة بوابة للتدخل في شؤون البلدان العربية.
محاربة تنظيم الإخوان المسلمين
قرر أردوغان تحويل العلاقات المصرية التركية إلى ساحة معركة إعلامية بعد أن دعا نائب في البرلمان المصري الحكومة المصرية لمنح حق اللجوء لفتح الله غولن، وصرح بأن تركيا كانت دولة مسلمة معتدلة ولكنها أصبحت دولة ديكتاتورية في عهد أردوغان وحزبه السياسي حيث المنتسبين إليه هم جماعة الإخوان المسلمين فبثت المخابرات التركية قنوات تلفزيونية بدعم وتمويل وتوجيهات تركية وتابعة للإخوان المسلمين ك “قناة الشرق”.
وعلى إثرها اعتقلت مصر شبكة تجسس تعمل لصالح تركيا وجاءت اعترافات أعضائها بأن الشبكة قد مررت الكثير من المعلومات إلى المخابرات التركية كجزء من خطة لإعادة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، في الوقت الذي صدر فيه تقرير أمريكي يؤكد التورط التركيّ في دعم قيادات جماعة الإخوان المسلمين ضد مصر.
كما حذّر تقرير لمجلس الشيوخ في فرنسا، من أنّ “التطرف الإسلاموي” يتزايد في عدد من المناطق الفرنسية مشيراً إلى ضرورة أخذ الحذر من (50) ألف عضو من الإخوان المسلمين، و أنّ مؤيدي “الإسلام السياسي” يسعون إلى السيطرة على الإسلام في فرنسا من أجل “إنشاء الخلافة”، ويُغذّون في بعض المدن “نزعة انفصالية” خطيرة.
وتشعر فرنسا بالقلق من محاولات التنظيمات المتطرفة مثل “الإخوان المسلمين” في الوصول إلى السلطة والسيطرة على الانتخابات البلدية المقبلة، وصرح الرئيس الفرنسي إن 300 إمام يتم إرسالهم إلى فرنسا سنوياً وإن عام 2020م سيكون آخر عام يستقبل مثل هذه الأعداد، وبالطبع يعرف الجميع أن هؤلاء يتلقون الدعم والتعليمات من حزب أردوغان الإسلامي.
مجابهة السياسة التركية في اللعب على الوتر الديني
عندما قامت تركيا بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد اعتبرت مصر هذا القرار “لعبة سياسية خطيرة” وبأنه يمس علمانية أنقرة، في حين اعتبرت أنقرة القرار حقاً سيادياً لا يحق لأحد التدخل فيه، وتحاول تركيا بمثل هذه الاستعراضات كسب المزيد من المتشددين العرب والإسلامويين في أوربا لجانبها واستخدامهم لخدمة أجنداتها الاستعمارية وهذا ما أثار حفيظة فرنسا.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أول رئيس عربي زار فرنسا بعد حملة الكراهية لفرنسا في العالم الإسلامي، وأكد الرئيس الفرنسي في القمة المشتركة التي حصل فيها السيسي على وسام جوقة الشرف والذي يعتبر أرفع وسام في الجمهورية الفرنسية بأن فرنسا لا تحارب الإسلام بل تحارب التطرف، وأن القاهرة وباريس تواجهان الإرهاب معاً وخصوصاً تنظيم الإخوان والخطر الذي يمثله، وتم تناول جهود جارية لصياغة آلية جماعية دولية للتصدي لخطاب الكراهية والتطرف.
العلاقات الفرنسية المصرية مع منافسي أردوغان
ذكرت الأنباء انزعاج تركيا من زيارة “فتحي باشاغا” وزير الداخلية في حكومة الوفاق الليبية والمحسوب على حزب العدالة والبناء لمصر وفرنسا، ويرى مراقبون أن تركيا تخشى أن يعقد باشاغا صفقة مع فرنسا ومصر لدعم وصوله إلى رئاسة الحكومة الجديدة وإسقاط السراج وذلك مقابل إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا.
كل هذه النقاط التي تجمع بين مصر وفرنسا وحجم خطورة تركيا على مصالح الدولتين في ظل تفاقم الأزمات في المنطقة من المحتمل أن تؤدي إلى علاقات استراتيجية أعمق بين مصر وفرنسا ودول أخرى مثل اليونان وقبرص وإيطاليا وحتى إسرائيل.
فهل يدفع ذلك دول الناتو إلى التفكير جدياً بممارسات وعضوية الدولة التركية؟.
NRLS