“التخطيط الثقافي”.. اللبنة الأولى للوصول إلى “الذكاء الثقافي” في شمال وشرق سوريا
مرهف فهد- الرئيس المشترك لهيئة الثقافة في شمال وشرق سوريا
“التراث الثقافي” هو الإرث الثقافي للشعوب والأمم، ويتضمن العادات والتقاليد والعلوم والآداب والفنون التي تنتقل من جيل إلى جيل، فهو بذلك يشمل جميع الفنون الشعبية، من شعر، وغناء، وموسيقى، وفلكلور، ومعتقدات شعبية، وقصص، وحكايات، وسي، وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، إضافةً لعادات الزواج والمناسبات المختلفة، وما يتخللها من رقصات وأغان وأزياء وطقوس موروثة للتعبير عن جوهر هذه المناسبات.
ويناط بالمؤسسات الثقافية والمنظمات المدنية العاملة في قطاع الثقافة، مهمة دعم وتعزيز وإبراز الهوية الثقافية للشعوب، وبالتالي يتوجب عليها احترام التنوع الثقافي في المجتمعات، لأنه دليل ملموس على حيوية الشعوب والأمم، ومدى ارتباطها بتاريخها وموروثها، والأهم، أن الإرث الثقافي لأي شعب من الشعوب هو ملك للحضارة والثقافة البشرية جمعاء، وهو يشكلُ لبنةً أساسية في مسيرة الفكر الإنساني عبر التاريخ.
وعلى اعتبار أن المؤسسات الثقافية في شمال وشرق سوريا حديثة العهد، ومازالت في طور النشأة، فإن مسؤولية النهوض بالواقع الثقافي هي مسؤولية جماعية، ولايمكن لأحد التنصل منها، كل حسب موقعه ودوره، وخاصة طبقة المثقفين، وأصحاب الفكر، ونشطاء المجتمع المدني.
ومنذ بداية تأسيس الإدارة الذاتية وحتى الآن، شهدت شمال وشرق سوريا انطلاق العديد من الفعاليات والملتقيات والمهرجانات الأدبية والثقافية والفنية المتنوعة، وهي بالطبع تشكل بصمة لتأسيس ركيزة ثقافية مستدامة، وهي كذلك تجلٍ لحيوية المشهد الثقافي في منطقة عانت من الإرهاب والحروب، ولازالت تعاني من التهديدات من أطراف عدة، إلَّا أن الأهم من ذلك، هو مدى تأثير هذا “المشهد” على أبناء المجتمع، ومدى مقدرته على كسب ثقتهم من خلال استشعارهم أن هذا “الحراك الثقافي” يُعبر عنهم هوياتياً، ويتناسب مع ذائقتهم.
إن التخطيط الجيد لإدارة الموارد الثقافية، هو الخطوة الأولى للنهوض بالواقع الثقافي في شمال وشرق سوريا، أضف لذلك، يُعد الاستثمار في التراث الثقافي لأبناء المنطقة، وإعادة إحيائه مجدداً هو أحد أهم السبل لنجاح المؤسسات الثقافية في منطقتنا.
ولا يقل التخطيط الثقافي أهمية عن التخطيط الإستراتيجي في ميادين السياسة والتربية والتكنولوجيا؛ فالثقافة وحدها هي الممارسة السحرية القادرة على الدخول إلى كل المفاصل الحيوية في المجتمع.
وبالتزامن مع ذلك يتوجب علينا أن نطرح مجموعة من التساؤلات على أنفسنا، وأهمها: هل أحدثنا تغييراً في السلوك المجتمعي السلبي؟!
وهل أوجدنا مساحة مؤثرة لتحريك الذائقة الثقافية البحثية لدى الأجيال الشابة؟!
وهل استطعنا كسر “التنميط” السلبي بين المكونات الثقافية لمناطق الإدارة الذاتية؟!
أعتقد أن مساحة الأجوبة على هذه الاسئلة وغيرها الكثير، تتطلب منا مواجهة صريحة مع الذات الثقافية والمعرفية، وذلك لتشخيص مستويات الإنجاز القادر على إحداث التغيير المعرفي الحقيقي.
وبالنظر إلى مجموعة التراكمات السلبية وماتركته الحروب من أثار نفسية جسيمة وما خلفته من رواسب في المجتمع، يبرز الدور العلاجي للثقافة في السعي لإزالة كل تلك التراكمات، ومحاولة القضاء عليها، والسعي لتأسيس حالة إيجابية وطنياً واجتماعياً يُبنى عليها آناً ومستقبلاً، ولذلك يجب أن يُنظر إلى “الثقافة” على أنها ليست حالة من الترف أوالكماليات؛ بل حاجة ملحة وضرورية فرضتها ظروف الواقع العصيب الذي حاق بالمنطقة لسنوات.
إن العودة بمجتمعات شمال وشرق سوريا الى الحالة الطبيعية المعزولة عن تجاذبات الحروب والاضطهاد، هو الركيزة الأهم في البناء المعرفي، وذلك لتشكيل حالة استحضار للثقافة العميقة في كينونة كل فرد من أفراد المجتمع، وجعلها أسلوب تعامل وحياة، ومن هنا يمكننا القول بثقة إن “الثقافة” تمتلك مقدرة على جعل شمال وشرق سوريا، أكثر ازدهاراً، وأكثر أمناً، وأكثر استدامة.
فجمال الثّقافة، وأعني الثّقافة بأوسع معانيها، لا الفنون البصريّة والموسيقى والأدب وما إلى ذلك، وحسب، وإنّما الأمور التي نتشاركها ونجمع عليها، وننتمي لها اجتماعياً، ومنها -على سبيل المثال- ثقافة التسامح والصلح التي عجت بها المنطقة في الآونة الأخيرة ومازالت مستمرة وستبقى متوارثة للأجيال القادمة، فهذه الثقافية الرفيعة الشأن إنسانياً وأخلاقياً ودينياً قبل كل شيء، تعبير صادق عن أصالة أبناء المنطقة ووطنيتهم.
إن محاولة خلق حراك ثقافي تشاركي في المجتمع سيساهم على المدى البعيد بتعزيز الانتماء لسوريا الجامعة، ونحن ندرك أن مواردنا الثقافية المجتمعية غير محدودة، ولكنها تحتاج لفرصة حقيقية وتبويب لتطويرها وإبرازها، ولكن غياب الاستراتيجية الثقافية واهمالها لفترة طويلة، جعل المجتمع يبحث عن البديل، وخاصة فئة الشباب منهم.
و اليوم نستطيع القول، إن أهمّ دعم ناله قطاع الثقافة في الإدارة الذاتية، هو إيمان النّاس المتزايد بعملنا. وأقصد بقولي هذا أن عدداً متنامياً –مثلاً– من الشّباب بدأ يتخصّص في المجالات الفنيّة ويبدع فيها، فنحن نرى كيف تمكّنت الثّقافة من جمع النّاس من كل أنحاء سوريا لاحياء معارض للفن. وهذا ما عزّز تقدير النّاس المتزايد للقيمة الأساسيّة الكامنة في كل مجالات القطاع الثّقافيّ، فهي تتخطى كل النعرات التي يزرعها الأعداء بيننا، وبات من البديهيات في هذا الوقت، أنّ وجود ثقافة حيويّة منفتحة خلّاقة يدعّم، لا محالة نجاحنا في إدارتنا، ويعزّز الأواصر بين أوساط مجتمعنا ويسقط كل اعدائنا.
وبالمقابل غياب “السّلطة الثّقافيّة” بمفهومها التنموي الإيجابي المنفتح سيعطي مجالاً واسعاً للثقافة السلبية المتقوقعة أن تظهر على السطح، ولا يخفى على أحد أن جدلية العلاقة بين الإدارة المركزية والفروع (في القطاع الثقافي) هي حالة صحية تقوم على التنافس التطويري، ولكن يجب أن يكون هناك من لديه الفكر ليطور، ولديه الخبرة لينفذ، ولديه الإمكانات أيضاً، إضافة لشراكة المجتمع، محور كل هذا، وهو الذي يسهم في تعزيز اللامركزية والديمقراطية والأفقية في العمل الثقافي.
فالتعاون الثقافي، واخص”الأفقي” ضمن اللجان الثقافية سيكون محوراً مهماً لسير العملية الثقافية ضمن المنطقة الواحدة، وربطها بكل المناطق، ويكون على المركز دعم المبادرات الثقافية لنصل لنسيج ثقافي متنوع ومتميز .
ويجدر الإشارة هنا إلى أنه لا نستطيع العمل والتنفيذ دون التفكير في عملية تنمية ثقافية متكاملة ومدروسة، في جو ثقافي، يتبناها الجميع، وهو مفعول “الذكاء الثقافي” ضمن التخطيط الثقافي للمجتمع، والذي سنجني ثماره عند الوصول إلى الأهداف المنشودة من التخطيط الثقافي الجيد.
ويُعرف “الذكاء الثقافي” بأنه مقدرة الفرد على الأداء بفاعلية في مناخ مختلف ثقافياً, ومن المهم هنا معرفة لماذا يكون بعض الأفراد أكثر كفاءة وفاعلية عندما يتعاملون مع مواقف تتسم بالاختلاف الثقافي؟!
فمصطلح “الذكاء الثقافي” بأبعاده الاستراتيجية والمعرفية، يعتبر أحد أهم المؤثرات على التخطيط الثقافي لأي مجتمع، فالرسالة والهدف والتحليل الثقافي في أي مجلس من مجالس الإدارة الذاتية مع وجود فروقات في التغيرات البحثية والاحصائية، تتطلب توضيحات حول الدور المحوري والمهم الذي تقوم به هيئات ولجان الثقافة في الإدارة الذاتية، خاصة في ظل التنوع والتمازج بين ثقافات المجتمع المحلي، لكل مجلس , وهنا تكمن القدرة على تقديم الخدمات اللازمة لتطوير ونشر “الذكاء الثقافي” لابل والعمل على ترسيخ هذا “المفهوم” بشكل علمي وعملي في أذهان القائمين على الشأن الثقافي قبل كل شيء، من أجل تعزيز قيمة التعايش المشترك، للوصول الى حالة الرضا لدى أفراد المجتمع عامة. وهذا من أهم عوامل استقرار وقدرة الإدارة على الاستمرار في تطوير الواقع المعيشي في المنطقة.
وعلينا بالمقابل ألَّا نغفل عن جودة النشاط الثقافي، فكل نشاط لاينفذ وفق المستوى المطلوب بالحد الأدنى للرسالة الثقافية، يمثل وقوفاً بالمكان، هذا إن لم يكن تراجعاً للخلف، فيجب ألَّا تكون السلطة المفرطة بالمنطقية عاملاً للتخلف والتراجع الثقافي، وأن غيابها أيضاً يسبب فجوات كبيرة قد يصعب سدها إذا انحرفت الاتجاهات الثقافية.
فالرسالة الثقافية، هي رسالة كل فرد يحمل تاريخ المنطقة، وتنوعها، ليرتبط بمجتمعه مشكلاً بذلك أجمل صورة للثقافات العريقة التي حملتها منطقة وادي الفرات عبر التاريخ من “بوطان” وحكاية “مامو زين” إلى أقدم المواقع الأثرية للحضارة في “تل مريبط” و”أبو هريرة” فهي رسالة خالدة تنمو في ظل التنوع الجميل، وستبقى مزدهرة رغماً عن الحروب.