رانيا مصطفى_ صحيفة العرب
لا تتصرف تركيا كدولة قوية منافسة للدور الروسي في المنطقة، فقد تدخّلت في سوريا عبر بوابة ضيقة بدعمها الإسلاميين، وراهنت على استلام الإخوان السلطة.
اليوم سيطر نظام الأسد على سراقب. سُلِّمت المدينة بغير قتال، سوى مما تبقى من كتائبها المحلية (جبهة ثوار سراقب)، وغالبيتهم عناصر من الجيش الحر سابقاً، عددهم أقل من خمسين، غير إسلاميين، ولا يتلقون دعماً من أي طرف، وكانت هيئة تحرير الشام قد جرّدتهم من سلاحهم الثقيل والمتوسط، لكنهم اختاروا المقاومة حتى الرمق الأخير، رغم حصار المدينة وسقوطها نارياً، وفعلياً، مع فارق القوة النارية، والعدد والعتاد
لم تقاتل هيئة تحرير الشام، واحتفظت لنفسها بالسلاح الثقيل والمتوسط الذي انتزعته سابقاً من الفصائل الأخرى، وفضلت تأجيل معركتها الوجودية، والانكفاء في الجيب المتبقي من محافظة إدلب
أما فصائل “الجيش الوطني” المدعومة والتابعة لتركيا، فقد سمح لها بالقتال في ريف حلب الغربي، ومنعت من الاقتراب من مدينة سراقب وريفها، فيما تراجعت “الجبهة الوطنية للتحرير” العاملة في محافظة إدلب عن القتال، وباتت تابعة كلياً لأنقرة، مع انضمامها إلى الجيش الوطني
المشهد في سراقب مكرر عما حصل في معرة النعمان في 28 يناير الماضي، والبلدتان تقعان على الطريق الدولي “إم – 5″، مع أهمية سراقب الاستراتيجية، كونها همزة وصل مع الطريق الدولي الثاني “إم – 4″؛ ما يعني أن هناك تفاهمات سرية تركية – روسية حول تسليم المنطقة للنظام، وهو ما حصل دون مواجهات تذكر
الموقف التركي في إدلب شديد التعقيد والغموض. وسبب هذا التخبط في تفسيره يعود إلى عدة عوامل أهمها: أولاً؛ تصاعد تهديدات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع بدء الحملة العسكرية للنظام وحلفائه على إدلب منتصف أكتوبر الماضي، حول انهيار اتفاقات أستانة وسوتشي إذا لم يتوقف الهجوم، واشتراط انسحاب النظام من المناطق التي استولى عليها بين شهري أبريل وأغسطس العام الماضي، في ريف إدلب الجنوبي، وفي ريف حلب
ويبدو أن هذا التصعيد التركي الكلامي للرئيس أردوغان، يتعلق باعتباراته الداخلية التركية، وللمحافظة على ولاء الفصائل السورية التابعة له، فيما بدا أنه لا يملك القدرة على فرض موقفه على الروس
والعامل الثاني يتعلق بمساندة واشنطن للموقف التركي، حيث أدان وزير خارجيتها، مايك بومبيو، الاعتداءات في إدلب وأكد على دعم تركيا في الدفاع عن النفس
والعامل الثالث يتعلق بالتصعيد العسكري المباشر التركي – السوري النظامي، مع استهداف النظام، بدفع روسي، لنقاط المراقبة التركية وقتل ثمانية جنود أتراك، وردّ تركيا بقصف قوات النظام
روسيا أرادت إرسال رسالة دموية إلى تركيا، عبر دفع النظام إلى استهداف جنودها، للضغط عليها لقبول ما يفرضه الروس من حلول، فيما سمحت لتركيا بالرد حفظاً لماء وجه حليفتها في كل مسارات التسوية السورية، بعد قبولها بمسار تسليم الطرق الدولية دون شروط، وإعادة توزيع الخرائط والحدود مجدداً، وطي صفحة هذه التوترات
ورغم محاولتنا تفنيد العوامل السابقة، إلا أن التنازل التركي لروسيا، في ملف إدلب يبقى محل تساؤل، رغم أن تركيا تسيطر على عشرات الآلاف من المقاتلين السوريين، الذين باتوا مرتزقة لها، ترسل بعضهم للدفاع عن حكومة الوفاق الليبية التي تدعمها ضد هجوم قوات خليفة حفتر
قد تكون ليبيا باتت أولوية لأنقرة، ويبدو أن دعم روسيا للطرف النقيض في ليبيا، يجعل طرابلس مهددة بتكرار تعرضها لتطبيق التفاهمات الروسية التركية، الغامضة، على غرار إدلب
وفي حين أن تأثير الملف الليبي على الموقف التركي في إدلب وارد، إضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بحجم التبادل التجاري وصفقة “أس – 400” وخطي نقل الغاز “السيل التركي”، لكن هناك عوامل داخل الملف السوري.
فما زالت أميركا متواجدة في سوريا، وتعزز قوّاتها شرق الفرات، الأمر الذي لم تفعله في ليبيا، لا مع هجوم حلف الناتو منذ تسع سنوات، ولا لاحقاً. وهذا يعني لتركيا بقاء خطر الانفصال الكردي؛ وهنا تتلاقى المصالح الروسية التركية، في خروج واشنطن من سوريا، مع اختلاف الأسباب كلياً، وضيق مساحة تعارضها.
فروسيا الراغبة في استثمار نفط وغاز شرق الفرات، ورفع العقوبات عن النظام، والإسراع بالحل السياسي، تعلم أن سيطرتها والنظام على شرق الفرات مفضّل لدى تركيا، حيث الرغبة في إعادة الأكراد إلى بيت الطاعة، ورفض استقلالية الإقليم ضمن إدارة ذاتية موسعة، وهو ما تريد أن تَضْمَنه تركيا.
وهناك سبب آخر دفع تركيا إلى التمسك بالحليف الروسي، هو عدم الثقة بحليفها الغربي والأميركي، شريكيْها في الناتو، اللذين خذلاها، في ما يتعلق بأمنها القومي، في أكثر من مرة، وغير الراغبين في توجهات حزب العدالة والتنمية، ورئيسه أردوغان، خاصة تجاه إسرائيل ودول الخليج وإيران، ولا يرغبان في توغلها في سوريا، عبر احتواء المعارضة السياسية، ودعم الطرف الإخواني ومن لف لفهم، وقد انقلب عليهم الأمريكان مع ثورة يناير في مصر، كما لا يرغبان في توغلها العسكري في سوريا، ودعم فصائل متشدّدة، وبالتالي لا رغبة لدى المجتمع الدولي في إعطاء تركيا مكانة إقليمية يرونها أكبر من حجمها.