لم تخف السلطات السورية قلقها من تزايد نفوذ الأكراد شرق الفرات، ووصفت مواقف صدرت عن مؤتمر للعشائر في المناطق الواقعة تحت سيطرتها بأنه “خيانة”، والأمر نفسه صدر عن الخارجية الروسية التي اعتبرت أن الأكراد يسعون لـ”إنشاء كيان شبه دولة”، في وقت يتضح فيه أن ظروفا محلية سورية وإقليمية ودولية تعبّد الطريق لتثبيت إقليم كردستان سوريا على صيغة كردستان العراق.
ورغم الانزعاج السوري والروسي، فإن الأكراد يرفعون من سقف حماسهم للتوصل إلى إقليم خاص يقيمون فيه حكما ذاتيا موسعا أقرب إلى الاستقلال خاصة مع تحوّزهم على أهم آبار النفط والغاز.
وكشفت الأشهر الأخيرة أن الأكراد يحوزون على دعم جدي من الولايات المتحدة التي قابلت التهويش الكلامي لتركيا بحزم، ودفعت رجب طيب أردوغان إلى التسليم بالأمر الواقع، والسعي لإقناع واشنطن بصيغة ما قد تسمح بمنطقة عازلة على الحدود مع مناطق سيطرة المجموعات الكردية السورية.
كما يحوزون على دعم معنوي، دبلوماسي وحقوقي وإعلامي، أوروبي في وجه الصلف التركي، وهو ما عكسه لقاء أخير جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع وفد من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وأكد فيه دعم فرنسا لهم وأشاد بدورهم الحاسم في مكافحة خطر تنظيم داعش.
ورغم تعدّد التهديدات ومصادرها، فإن الأكراد لديهم اليد العليا في مناطقهم وهم محميون من الطيران الغربي، في صورة أشبه بمنطقة الحظر الجوي في التسعينات التي أقامتها الولايات المتحدة لمنع الطيران العراقي من استهداف مواقع كردية عراقية.
وساهم الدعم الأميركي حينها في نشأة حكومة إقليمية في كردستان العراق لا تزال صامدة إلى اليوم، ووقتها تذمّر الرئيس العراقي صدام حسين من الواقع الجديد، ولكنه رضخ للأمر الواقع، مثلما تتجه الأمور الآن بالرئيس السوري بشار الأسد رغم الإغراءات والمزايا التي يعرضها أحيانا على الأكراد، ويلوّح بالاجتياح العسكري لترهيبهم أحيانا أخرى، ولكن دون نتائج.
ويقول مراقبون إن الدعم الخارجي ليس وحده الذي يغذي الحلم الكردي، ولكن أيضا، فإن الميزة المهمة للأكراد هي علمانيتهم مما يجعلهم يستقطبون التيارات المحلية لصالحهم.
ويجتذب الأكراد الآن العشائر العربية لصالحهم بعد أن انضم إليهم المسيحيون، مستفيدين من النجاحات العسكرية في الحرب على داعش ودورهم في تحرير مناطق الإيزيديين واستعادة أسراهم خاصة من النساء.
ويشير المراقبون إلى أن الأكراد بانفتاحهم على العشائر العربية إنما يجربون نفس الطريقة التي تعاملت بها الحكومة السورية، وقبلها العراقية، لاستقطاب بعض العشائر الكردية وتقريبها لضرب الأكراد أنفسهم.
وندّد مصدر سوري بمؤتمر للعشائر تنظمه قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن في مدينة عين عيسى (شمال) بوصفه بـ”الخيانة”، بحسب ما أوردت وكالة سانا الرسمية.
وقال المصدر المسؤول في وزارة الخارجية السورية في تصريح لوكالة سانا، مساء الجمعة، إن المؤتمر الذي انعقد في منطقة “تسيطر عليها ميليشيات مسلحة تابعة للولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى (…) مني بالفشل بعد مقاطعة معظم العشائر العربية الأصيلة له”.
ووصف المؤتمر بأنه “التقاء العمالة والخيانة والارتهان”.
ويرى متابعون أن القلق الرسمي السوري من المؤتمر يعود إلى استشعار دمشق أن خطط الأكراد تتجاوز تحالفات ظرفية بوجه داعش أو تركيا أو حتى النظام نفسه إلى مرحلة أخطر تقوم على التطبيع مع “حالة الاستقلال” التي أخرجها الأكراد من مرحلة الممكن إلى حالة الأمر الواقع، وهو ما يظهره رفضهم لأي شكل من التقارب مع النظام يفقدهم الهيمنة الكاملة على مناطق نفوذهم.
ورفض مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية التي تضم فصائل كردية وعربية، خلال المؤتمر الذي عقد، الجمعة، أسلوب “المصالحات” الذي تقترحه دمشق من أجل تحديد مصير مناطق سيطرة الأكراد.
وتصاعد نفوذ الأكراد مع اتساع رقعة النزاع في سوريا منذ العام 2012 بعدما ظلوا لعقود مهمشين، مقابل تقلّص سلطة النظام في المناطق ذات الغالبية الكردية، وبعد تمكنهم لاحقا من طرد تنظيم داعش من مناطق واسعة في شمال وشمال شرق سوريا.
وبعد انسحاب قوات النظام تدريجيا من هذه المناطق، محتفظة بمقار حكومية وإدارية وبعض القوات، لاسيما في مدينتي القامشلي والحسكة، أعلن الأكراد إقامة إدارة ذاتية لا تعترف بها دمشق.
ويطالب الأكراد باعتراف رسمي من دمشق، ليس فقط بحكم محلي ذي صلاحيات واسعة، ولكن أيضا بالتعاطي مع الوضع الحالي كأمر واقع، بما في ذلك سيطرة “قسد” وقيادتها لنضال الأكراد من أجل تثبيت مكاسبهم.
وشدّد عبدي على أنه “لا يمكن الوصول إلى سوريا الديمقراطية من دون الاعتراف بحقوق الشعب الكردي دستوريا، ولا يمكن الوصول إلى الحل من دون الاعتراف بالإدارة الذاتية التي تخدم مكونات المنطقة”، موضحا أن “الوصول إلى الحل لا يتحقق إلا من خلال القبول بخصوصية قوات سوريا الديمقراطية ودورها في حماية هذه المنطقة مستقبلا، فكما قامت بتحريرها، فهي جديرة بأن تحظى بخصوصية في سوريا المستقبل”.
من جهتها، هاجمت الخارجية الروسية في بيان لها ما أسمته محاولة قادة الأكراد تنظيم ملتقى للعشائر السورية، واعتبرت أنّ اجتماعات الأكراد مع العشائر السورية تهدف إلى تقويض منصة أستانة. كما اعتبرت أنّ الولايات المتحدة، الداعم الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية، تسعى لضمان وجود طويل الأمد لها في سوريا. وذلك وفقا لما ذكرته قناة “روسيا اليوم”.
وأشار البيان الروسي إلى أن بعض الجماعات الانفصالية، وبدعم من الولايات المتحدة، تسعى لـ”إنشاء كيان شبه دولة” شرق الفرات.
وتعتقد أوساط كردية أن الخطوات التي يقطعها الأكراد حاليا معرضة للانتكاس إذا لم تبادر المجموعات المختلفة إلى بناء حوار داخلي حول مستقبل إدارة الإقليم، وتقديم رؤية مشتركة يتم التفاوض وفقها مع النظام، والتحرك بها خارجيا، مشيرة إلى أن أكراد العراق ظل العامل الذاتي أحد العناصر الرئيسية المعيقة لخططهم طيلة العقود الأخيرة.
ورغم الدعم الأميركي والأوروبي، فإن الأكراد لم يتمكنوا بعد من بناء علاقات دولية جيدة ومتعددة، ولا من الحصول على الاعتراف بإدارتهم الذاتية في سوريا، ولم يسمح لهم بالمشاركة بوفد كردي مستقل يمثلهم في المؤتمرات الدولية التي ناقشت الوضع في سوريا.
(المصدر :العرب )