“وإِن الملك لجدير أَن لا يذهب عليه صغير ولا كبير من أَخبار رعيته وأمور حاشيته وسير خلفائه والنائبين عنه في أَعماله، بمداومة الاستخبار عنهم وبث أَصحاب الأخبار فيهم سراً وجهرا”. ليس هذا قول حديث لأحد حكام العرب، بل هو ما نشره أحد أشهر القضاة في الدولة العباسية، الماوردي، في كتابه “تسهيل النظر”.
لا يختلف اثنان حول محورية الدور الذي لعبته أجهزة المخابرات في صناعة الواقع السياسي والثقافي العربي في العصر الحديث. لكن ما الدور الذي لعبته المخابرات في صناعة تاريخ المنطقة العربية؟ كيف كان شكل الأجهزة الأمنية في الفترات التاريخية السابقة، وما هي حدود اختصاصاتها؟ هل لعب الأمنيون دوراً في انتشار الإسلام أو توطيد حكم الخلفاء وأمراء المؤمنين؟ وهل من تقاطع بين دور المخبر سابقاً والدور الذي يلعبه اليوم؟
لطالما وصفت الجاسوسية بأنها ثاني أقدم مهنة في تاريخ البشرية، وفي زمن لم تتوفر وسائل متطورة للتواصل، أسهم الجواسيس في وصف الشعوب الأخرى وبيئاتها وقدراتها وأنماط عيشها. فساهموا في تقريب الأمم أحياناً، وتفريقها وإثارة التنافس والحرب بينها في أحيان أخرى. ففي العهد القديم مثلاً، النص التالي: “ثم كلم الرب موسى قائلاً، أرسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل فأرسلهم موسى. صعدوا وتجسسوا الأرض من برية صين إلى رحوب في مدخل حماة. ثم رجعوا… فساروا حتى أتوا إلى موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل وأخبروه: ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقاً إنها تفيض لبناً وعسلا… الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة عظيمة جداً…”. كان ذلك الوصف، الذي عاد به جواسيس موسى، كفيلاً بإضعاف الروح المعنوية لبني إسرائيل وتخاذل قسم كبير منهم، فعاقبهم الرب، كما تقول الرواية الدينية. لم يكن اليهود استثناءً، فكان الجواسيس والعيون، أبرز مصادر المعلومات لدى الشعوب الأخرى، التي سكنت بلاد ما بين النهرين والبادية الشامية، وسواحل المتوسط.
المخابرات في صدر الإسلام
لم تشهد المرحلة التأسيسية في الإسلام ظهور جهاز مخابرات مستقل، أو ما كان يعرف بديوان الخبر. إنما جرت العادة أن ينتدب الرسول بعضاً من الصحابة، لأداء مهمات استخبارية محددة، قبيل الغزوات أو لتنفيذ عمليات اغتيال، بحق من شكلوا خطراً على انتشار الدعوة، مثل عصماء بنت مروان، وأبي عفك وكعب بن الأشرف وغيرهم. توسعت مهمات العيون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لتشمل متابعة أداء الولاة وضبط الأمن داخل المجتمع المسلم الآخذ بالتوسع.
وأوضح الماوردي في “تسهيل النظر”، أن علم عمر بأحوال العامة كان كعلمه بأحوال الخاصة، فكانت تقارير المخبرين سبباً في عزل عمر لأبي هريرة عن ولاية البحرين، بعد أن اتهمه بهدر أموال المسلمين، كما جاء في العقد الفريد. لا يبدو من المصادر التاريخية أن الخليفة عثمان بن عفان أولى عناية كبيرة بشؤون الاستخبارات، ما يؤيده قول عبد الملك بن مروان: “إن عمر أساء ظنه فأحكم أمره، وإن عثمان حسن ظنه فأهمل أمره”. عموماً، وعلى خلاف ما تدعيه بعض الدراسات، لم يشهد العصر الراشدي ظهور مؤسسات العسس والحسبة وديوان الخبر، فبقيت حينها الإدارة الأمنية عفوية، وخاضعة لرأي الخليفة ومَن حوله. الأرجح أن تلك الأنظمة تبلورت وتمأسست في العصور اللاحقة، خصوصاً أيام العباسيين.
ديوان البريد والخبر
لا تحدد المصادر تاريخ اعتماد نظام الدواوين بشكل دقيق، ولكن الثابت أن انتشار الإسلام، وتوسع الدولة إلى مستوى امبراطوري في العهد الأموي، استلزم تطوير النظم الإدارية وأساليب الحكم. كما أن القلاقل والاضطرابات الداخلية، دفعت خلفاء بني أمية لنشر المخبرين في الولايات، وإصلاح ديوان البريد لضمان مستوى جيد من التواصل بين المركز والأقاليم، ولضمان انتقال الأخبار بأسرع ما يمكن. لكن يبدو أن تلك الإصلاحات لم تشمل اعتماد جهاز مخابراتي يعمل وفق قواعد مؤسساتية ثابتة، فبقي اختيار المخبرين وتحديد صلاحياتهم خاضعاً لأمزجة الحكام.
لاحقاً، وبعد اعتماد نظام الوزارة في زمن العباسيين، واستحداث المزيد من الدواوين، حدثت نقلة نوعية في عمل أجهزة المخابرات. فأصبح ديوان البريد والخبر من أهم مؤسسات الدولة، وبات صاحب الخبر من أكثر الموظفين قرباً من رأس السلطة السياسية. يذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أن المنصور كان يقول: “ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة: قاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراجٍ يستقصي ولا يظلم الرعية، والرابع صاحب خبرٍ يكتب بخبر هؤلاء على الصحة”. أيضاً يذكر الطبري أن المخبرين والعيون كانوا “يكتبون إلى المنصور أيام خلافته بسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي. وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث..”. بالطبع لم تقف مهمات العيون والمخبرين عند ذلك، بل تضمنت الكثير من الرقابة والتجسس، فكان عليهم أن يحضروا مجالس الناس وولائمهم، ومجالس الوعظ والأسواق، وأن يطّلعوا على أحوال العامة، وما ينتشر من شائعات، وما يشتهر في كل وقت من أقوال وممارسات.
تركز عمل جهاز المخابرات العباسي في فترات الازدهار، على مراقبة المعارضين ومحالّ الصرافة، للتنبؤ بأي حركة أو نشاط ضد السلطة الحاكمة. في حين ازداد نشاط المخبرين في أوقات تراجع الدولة العباسية، فتدخلوا في الحياة اليومية للناس، وانتشرت الوشايات وبات كل فرد مشروع خطر على الدولة. وهي ملاحظة قد تنطبق على جميع الأزمنة، فكلما تطورت الدولة أصبح نشاط المخابرات غير محسوس، أولاً لأن عملها يقتضي السرية، وثانياً لأن عمل المخابرات ينشر إحساس بالرقابة والخوف بين الناس، ما يعيق تطور المجتمع بشكل طبيعي.
من الناحية التنظيمية، جاء في قمة جهاز المخابرات، أصحاب الأخبار، تلاهم في الأهمية مساعدوهم ممن يسمون “الأمناء”، ثم جاء “الرقباء” وبعدهم “السعاة”، وأخيراً الراصدون والعيون، وهم من أطلق عليهم الناس لقب “البصاصون” في زمن المماليك. أصحاب الأخبار، كانوا بالتأكيد، على اتصال دائم بـ “النقباء”، فكان لكل جماعة أو قبيلة نقيب يتجسس أخبارها، ويجمع عنها المعلومات علناً. وبعد كتابة التقارير، كانت تسلم لعمال البريد المنتشرين في الولايات لنقلها إلى مركز الولاية أو للعاصمة.
من عمل في المخابرات؟
تنكّر أصحاب الأخبار في زي تجار وسياح ومتصوفة ودراويش. وحرصاً على التحقق من صحة التقارير، وتجنباً للمؤامرات، حرص الأمويون على أن لا يعرف المخبرون بعضهم بعضاً. وحين اشتد التنافس بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم، تعددت ولاءات أجهزة المخابرات واتسعت شريحة المخبرين، فضمت نساء وتجاراً ومزارعين وخدماً وشحادين، وقوادين ومدّعي جنون. كما تميز عهد الخليفة المعتز بتجنيد الشيوخ الضعاف وذوي الإعاقة، لاستعطاف الناس وإبعاد الشبهات. وفي زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي، شاع تجنيد النساء العجائز لمراقبة تنفيذ الأوامر بحظر النساء من مغادرة المنازل. ومع المماليك، تحول المخبرون إلى طبقة نافذة تتحكم بمفاصل الدولة والمجتمع.
إشارة إلى أن رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطاني، ترصد تحول الجهاز المخابراتي إلى الشكل المافيوي في العصر المملوكي وبداية العهد العثماني. تعطي الرواية أفضل صورة عن شخصية المخبر ودوره ونظرة الناس له. كما صدرت أخيراً رواية “البصاص” لمصطفى عبيد، التي تستلهم تفاصيلها من مصر أيام حكم محمد علي باشا، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. يسلط عبيد الضوء على الشخصية المخابراتية المهزوزة، التي تعيش في عالم من الريبة ويسكنها الخوف من المخبرين الآخرين. هذه الأعمال الأدبية وغيرها من النصوص التوثيقية، تكشف مسؤولية المخابرات في منطقتنا، عن ترسيخ أسلوب حكم الشعب بالخوف والقهر. وتُظهر الامتدادات التاريخية لمفهوم الدولة الأمنية، الذي صبغ عالمنا العربي في فترة ما بعد الاستقلال.
بعد هذا الاستعراض السريع، من المهم الحديث عن المعضلة المزمنة التي ترافق عمل أجهزة المخابرات. فلا غنى عن تلك الأجهزة لحماية أمن الدولة وتماسكها، ولكن المشكلة تكمن في صعوبة تقييد صلاحيات عناصر وقادة الأجهزة الأمنية. فغياب حكم القانون، ووجود قوانين طوارئ، يتيح لأجهزة المخابرات التحول لمافيات. فتتجاوز مهماتها الأمنية، وتتدخل في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية، لتعلن في النهاية قيام دولة الخوف بدلاً من دولة القانون.