جمهورية آتاتورك على جرفٍ هار

سلطان تمو: انطلاقاً من العقلية والطموحات التوسعية العثمانية، انتهجت الدولة التركية سياسة التقرب من العرب في إطار كسبهم واعتبارهم من رعاياه، هذا ما قد ظهر من خلال مواقف عدة، منها: موقف تركيا المؤيد لغزة والمناهض لإسرائيل ظاهرياً، وعدم القبول بالتدخل الأمريكي في العراق، وأخيراً رفض الانضمام إلى التحالف الدولي للقتال ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، بالإضافة إلى محاولة التغاضي عن حل القضية الكردية في تركيا، رغم المحاولات العديدة من الجانب الكردي وإظهار حسن النوايا وطرح مشروع السلام والحل الديمقراطي من قبل القائد الكردي عبد الله أوجلان، واللجوء دائماً إلى الأساليب الملتوية للنيل من إرادة الشعب الكردي، من خلال بعض الإجراءات الخدمية والإغراءات المادية لتوسيع قاعدته الجماهيرية، وجذب الكرد تحت الغطاء الإسلامي وإبعادهم عن حقيقتهم القومية والثقافية، وأيضاً أساليب المماطلة والوعود الكاذبة لكسب الوقت، وانتظار الفرصة المناسبة لتحقيق طموحاتها، وشد حزب العمال الكردستاني إلى أرضية أكثر مرونة وتوافقاً مع سياسته الداخلية التي لا تعترف بالقضية الكردية كقضية قومية، بل كقضية ثقافية واجتماعية.
و قد شكلت الأزمة السورية آمالاً كبيرة لدى تركيا، للشروع بتطبيق مشروعها العثماني من خلال دعم المعارضة السورية الاسلامية المسلحة، ودعمهم بالسلاح والعتاد وإنشاء المعسكرات التدريبية لهم وفتح المشافي أمام جرحاهم، إضافة إلى أن مطاراتها وأراضيها أصبحت ممرات آمنة لعبور المسلحين الأجانب القادمين من الدول الأجنبية، لقتال النظام السوري وكذلك دعمها للمعارضة السياسية السورية، المتمثلة بالمجلس الوطني السوري والائتلاف السوري الموحد، وقد سعت الدولة التركية من خلال هذه السياسات إلى تحقيق هدفين أساسيين:
أولهما: إسقاط النظام السوري الموالي لإيران والحد من التوسع الإيراني في المنطقة، من خلال دعم المعارضة السورية السنية، طامحة بذلك إلى إرساء نظام سوري جديد في دمشق موالي لأنقرة، ويخدم المشروع الأردوغاني العثماني الهادف إلى بسط سيطرته عل بلاد الشام، وإرجاعه إلى حضن الوطن تركيا، كما يتخيل ويعتقد به أردوغان وأتباعه من العثمانيين الجدد.
والثاني: ضرب مكتسبات الشعب الكردي في (روج آفا) أو ما يسمى بالشمال السوري بشتى الوسائل، وعقد الآمال الكبيرة في التخلص من القضية الكردية التي تمثل الشغل الشاغل للدولة التركية، بالقضاء على النهوض الكردي في شمال سوريا والتي تجاور تركيا على طول 822 كم، من خلال دعم الجماعات الإسلامية المسلحة وتوجيهها لمحاربة الكرد في كل من رأس العين وعفرين وتل أبيض وكوباني التي تقهقرت عليها جميع الآمال العثمانية.

السعي الأعمى للدولة التركية وراء تحقيق هذين الهدفين، واستنفار جميع قدراتها الاستخباراتية والسياسية وحتى الاقتصادية والطبية والإعلامية، جرتها إلى إرتكاب أخطاء جسيمة باحتوائها للجماعات السلفية الجهادية، والمراهنة عليهم لتطبيق مشروعهم العثماني والتخلص من القضية الكردية وسحبها إلى أرضية عميلة لهم، فما حدث أن النظام السوري لم يسقط واقتنع العالم أجمع بأن القادم أخطر وأبشع من هذا النظام، وليس من مصلحة أحد سقوط النظام السوري حالياً، إلى جانب ذلك لم تتمكن الجماعات الإسلامية السلفية المدعومة من الاستخبارات التركية، من ضرب مكتسبات الكرد في روج آفا، وعلى العكس تماماً فقد ساهمت هذه الهجمات في التقارب الكردي الكردي، والتنبه إلى الأخطار التي تهدف إلى النيل من إرادة الشعب الكردي في كافة أجزاء كردستان، واستنفار الآلاف من أبناء الشعب الكردي في شمال كردستان، لنصرة أخوتهم في روج آفا والتنديد بالسياسة التركية تجاه روج آفا.
ومن الناحية الأخرى تنبهت المعارضة التركية المتمثلة بحزب الشعب الجمهوري CHP، والذي يعتبر أقدم الأحزاب التركية الذي أسسه مصطفى كمال آتاتورك، والذين يعتبرون أنفسهم المدافعين عن الجمهورية التركية التي أقامها مؤسس حزبهم آتاتورك، وهم متخوفون كثيراً على الإرث الآتاتوركي من طموح آردوغان العثماني، ويشاهدون بوضوح دلالات هذا التوجه من قبيل تغيير القصر الجمهوري حيث بدأ أردوغان بتنفيذ نياته في هدم كل ما يرمز إلى (تركيا أتاتورك).

و أخيراً، لا بد من التنبيه إلى المخاطر التي تهدد تركيا والمنطقة، والتي هي نتاج عقلية العثمانيين الجدد التي تتحكم بتركيا، والتي تتعامل بوفقية وانتهازية مع كل الماساة التي تدور من حولها، وهي عقلية تحاول ان تعمم رؤيتها على الاخرين في كيفية التعامل مع الأزمة السورية، فهي مؤطرة بتراث عثماني يسعى أردوغان وحزبه لبعثه من جديد، والتي تشير إلى إقبال هذه المنطقة على حروب وانقسامات كبيرة في الخارطة الجيوسياسية، والتي لن تنحصر فقط بسوريا والعراق، بل ستشمل كامل المنطقة ويحتمل أن تعيش الساحة التركية أشد هذه الحروب والانقسامات وأن تقذف بتركيا إلى فوضى عارمة لا يحمد عقباها.