دأبت الدولة التركية على محاولة تعويم تنظيم القاعدة ( فرع سوريا ) المتمثل بـ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) منذ بداية الأزمة السورية وإلى هذا اليوم وذلك عبر عدة طرق سواءً بإعلان فك ارتباطها بتنظيم القاعدة في النصف الثاني من عام 2016 وصولاً إلى تبني التنظيم الدفاع الدولة التركية ومواجهة أعدائها وحماية القوات التركية أثناء دخولها الأراضي السورية.
أن تنظيم “هتش” (الاسم الذي يطلق عليه محلياً) و بالرغم من الايديلوجية القاسية التي يتبناه التنظيم إلا أنه عمد إلى الدخول في عدة مراحل بتوجيه وتعليمات من الدولة التركية ولعل الانسحاب الذي قام به التنظيم في بدايات عام 2017 من الغوطة الشرقية والمناطق التي كانت تحت سيطرته كفيل بتوضيح الرضوخ التام الذي يبديه للدولة التركية و للمخابرات التركية على وجه التحديد، من جانبٍ اخر فإن مباركة وتزكية متزعم التنظيم أبو محمد الجولاني لاحتلال سري كانيه وكري سبي وضرورة التمدد في مناطق شمال شرق سوريا ليست سوى مؤشرات للتناغم المخابراتي بين الدولة التركية وبين التنظيم.
جاء رصد الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار أمريكي لقاء الإدلاء بأية معلومات حول مكان تواجد متزعم تنظيم هتش أبو محمد الجولاني بمثابة المسمار الأخير في نعش محاولات الدولة التركية حول رفع الصبغة الإرهابية عن التنظيم، إلا أن تركيا كانت قد اعدت مسبقاً مخططاً بديلاً لرفع الصفة الإرهابية عن التنظيم المذكور، وبالطبع هذه الخطوة جاءت في الوقت الذي تُقدم فيه الدولة التركية على إرسال فصائل المرتزقة الذين يطلق عليهم تسمية “الجيش الوطني” إلى عدة ساحات للقتال منها “أذربيجان, ليبيا, اليمن, شمال إفريقيا، وكشمير” وتعد هذه الخطوة من قبل الدولة التركية في دمج عناصر التنظيم ضمن تشكيل عسكري يطلق عليه تسمية “الشرطة العسكرية” وذلك لتمكين التنظيم من الدخول إلى مناطق ريف حلب الشمالي والغربي في المستقبل وضمانه لبقاء هذا التنظيم تحت رعاية الدولة التركية.
في سياق متصل كان قد زار الداعية السعودي عبد الله المحيسني وهو أحد ابرز الشخصيات المؤثرة داخل هيئة تحرير الشام مدينة عفرين والتقى ببعض من قادة تنظيم فيلق الشام بالإضافة إلى لقاء والي مدينة عفرين الذي تم تعينه من قبل الدولة التركية. هذه الزيارة تأتي في الوقت الذي تشير الوقائع حول التقارب بين هيئة تحرير الشام وفصائل المرتزقة في مدينة عفرين وحول وجود تناغم بين التنظيم وبين الفصائل الأخرى، الأمر الذي من الممكن أن يساعد التنظيم في التمدد إلى تلك المناطق والتمهيد إلى نقل ثقله من ريف إدلب إلى مناطق ريف حلب الشمالي والمناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة التركية على أمتداد الشريط الحدودي أي بمعنى أن التنظيم يقوم بعملية جس نبض لردود الفعل التي من الممكن أن تحدث في حال دخول التنظيم إلى مناطق سيطرة الدولة التركية.
من جانبٍ اخرعمد التنظيم خلال الفترة الماضية إلى تخريج عدة دورات تدريبية لتشكيلاته العسكرية شملت مختلف المجالات العسكرية، إلا أن التصريحات التي تدلي بها كل من روسيا والنظام السوري على الدوام حول وجود تنظيم هتش في محافظة إدلب وضرورة القضاء عليه دفعت بتركيا إلى نزع تلك الذريعة من خلال تهيئة الدولة التركية الأجواء للإعلان عن عدم بقاء أي عنصر من عناصر هتش في محافظة إدلب، وقد اعدت الدولة التركية مخططاً لحل هذا التنظيم، ووفقاً للمخطط فإن الدولة التركية تسعى إلى الزج بعناصر تنظيم “هتش” ضمن تشكيل عسكري قد تطلق عليه اسم “الشرطة العسكرية” والتي ستكون مهمتها بشكل أكبر تأمين الطرق الدولية من جانب المرتزقة ومنع أي عملية احتكاك بين فصائل المرتزقة وبين النظام السوري وحلفائه.
وبالعودة إلى أواخر 2019 والتباين الذي أظهرهُ التنظيم في موقفه من الاحتلال التركي لمناطق شمال شرق سوريا كان كافيا لتوضيح الصراع في البيت الداخلي للتنظيم فالاستقالات والانشقاقات والاعتقالات التي شهدتها قيادات الصف الأول للتنظيم والتي بدأت من بـ ” أبو اليقظان المصري ” وتتالت لتشمل كل من “أبو مالك التلي، طلحة الميسر “أبو شعيب المصري”, أبو العبد أشداء, والمحيسني , والعلياني فيما بعد، هذه التغيرات التي طرأت على جسم التنظيم داخلياً ما كانت سوى لمعارضتهم للموقف الذي ابداه التنظيم من التقارب الروسي التركي والعمليات العسكرية التي كانت تقودها روسيا في المنطقة فجاء انشقاق واستقالة قادة الصف الأول وعودتهم فيما بعد إلى جسم التنظيم بضغوط من الجانب التركي للتأكيد على قطعية إقدام التنظيم على أي فعل يتناقض مع التطلعات التركية في المنطقة، ولعل تشبث قادة الصف الأول بمواقفهم البراغماتية دفع بالهيئة إلى تقديم تنازلات جمة لضمان وجودها ومستقبلها في المنطقة وذلك عبر إعادة القادة الشرعيين مرة أخرى تمهيداً للتخلص منهم حين اللزوم.
في سياقٍ متصل لقد أجرى تنظيم هتش سلسلة من اللقاءات مع المدنيين في إدلب شرح فيه خطورة الوضع المتفاقم في مناطق سيطرة فصائل المرتزقة في إشارة على مناطق (جرابلس، الباب، إعزاز، عفرين) ويدعي فيه متزعم التنظيم أحمد الشرع الملقب بأبو محمد الجولاني والذي يشرف بشكل مباشر على عمليات التواصل مع المدنيين إلى خطورة الوضع وضرورة إيقاف الانتهاكات والتجاوزات والانفلات الأمني الذي تعانيه المناطق الآنفة الذكر، وتأتي هذه الخطوة في سياق محاولات التنظيم التلاعب وإعادة كسب القاعدة الشعبية له بعد فقدان قاعدته الجماهيرية بسبب التجاوزات والانتهاكات التي قام بها التنظيم في المنطقة مؤخراً، كما أن هذا الأمر قد تطرق اليه مراقبون على إنه ” تمهيد من قبل التنظيم إلى تسلم الملف الأمني والعسكري في تلك المناطق ” والتوسع فيها وعدم حصر تواجده وأنصاره في محافظة إدلب فقط ، إنما التمدد أيضاً ليشمل مناطق شرق الفرات أيضاً.
وقد عمد التنظيم خلال الأشهر الماضية وبدعم من الدولة التركية إلى نقل معظم العناصر الاجنبية الذين تم استقطابهم من دول الاتحاد الأوربي بالإضافة إلى عناصر من الحزب الإسلامي التركستاني ــ كفصيل مقرّب من المخابرات التركية ــ إلى داخل الأراضي التركية ووفقاً لمعلومات مؤكدة كانت قد تداولتها قادة ميدانيون ضمن الحزب الإسلامي التركستاني ( خلال تواصلهم كمجموعات على وسائل التواصل ) خاصة بهم فأنه تجري ومنذ بداية تشرين الثاني /نوفمبر من العام الجاري لقاءات بين المخابرات التركية والأخيرة حول نقل الحزب إلى مراكز أمنية وعسكرية في ولاية آمد (ديار بكر) وتهيئة الحزب للمشاركة في القتال ضد حزب العمال الكردستاني، ووفقاً لما ذكره تقرير نشرته وكالة سكاي نيوز فإن الدولة التركية كانت قد عمدت وبالتنيسق مع الولايات المتحدة الامريكية على رفع الحزب الإسلامي التركستاني من لوائح الإرهاب وبالفعل فقد قامت الولايات المتحدة برفع الحزب من قوائم الإرهاب، الامر الذي يفسر الضغوط التي فرضت على تركيا في سبيل نقل العناصر الأجنبية من الأراضي السورية إلى داخل الأراضي التركية.
نستخلص مما سبق إعداد تركيا لمرحلة قادمة تتمثل بتضييق الخناق بشكل أكبر على فصائل المرتزقة المتواجدين في محافظة إدلب وفتح الطريق الدولي بحماية من تنظيم جبهة النصرة تحت مسمى الشرطة العسكرية بالإضافة إلى إفراغ كافة المناطق التي احتلتها “سري كانيه، كري سبي، عفرين” من فصائل المرتزقة واستبدالهم بعناصر الشرطة العسكرية والتي سيكون لها دور بارز في عمليات التغيير الديموغرافي التي ستشهدها المنطقة في المرحلة المقبلة والتي ستحمل عنوان “الشرطة العسكرية تؤمن الطرق الدولية”.