في ذكرى تأسيسها الرابعة الإدارة الذاتية.. ومكامن قوة “الخط الثالث السوري” وأسباب فشل النظام والمعارضة في إنهاء الأزمة

منذ اشتعال الأزمة السورية مطلع سنة 2011 ظهرت إرهاصات تنبئ بأن البلاد ذاهبة إلى الهاوية، ولم يستغرق الوقت طويلاً ليتبين مدى تعمق الخلافات بين أبناء المجتمع السوري، بسبب تزايد الفجوة ما بين طرفي الصراع (قوى الثورة والمعارضة ومؤيدوها من طرف والنظام ومؤيدوه من طرف آخر) إذ ظهر بشكل جلي عدم مقدرة الطرفين حتى الآن في إيجاد حل جذري يوقف نزيف الدم السوري، ويكبح معاناة الإنسان السوري.
فطيلة عقود، استطاع نظام البعث إحكام السيطرة على السوريين بقبضة فولاذية، لكن بالمقابل، وكإفراز طبيعي لهذه الحالة، فشل البعث في تعزيز الحالة الوطنية والانتماء لسوريا المتنوعة، التي حباها الله بغنى ثقافي وقومي وديني فريد من نوعه، ومن هنا نتفهم أسباب طغيان “البعثوية” على سوريا دولة ومجتمعاً؛ فالوطنية من وجهة نظر “النظام البعثي” تعني الولاء المطلق للبعث.. لا لسوريا..!!
ومع تكريس هذه الحالة منذ سبعينات القرن الماضي في بداية عهد الأسد “الأب” تولد شعار “سوريا الأسد” ليصبح مع مرور الأيام (تابو مقدس) لا يمكن المساس به، وما شعارات “الأسد أو نحرق البلد” التي أُطلقت بعد الثورة السورية، إلَّا انعكاسٌ جليٌ لهذه الأدلجة العمياء، والتي تعني من وجهة نظر البعث أنه لاوجود لسوريا بدون الأسد ونظامه..!!
وبعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، تبين استحالة تعاطي النظام بإيجابية مع الوقائع، أو الالتفات لمطالب السوريين، والحقيقة أن “عسكرة” الثورة السورية، ودخول قوى التطرف إلى خطها، ثم تمازجها مع الفصائل المسلحة، وتماهي هذه الفصائل معها، كالإخوان المسلمين والقاعدة (جبهة النصرة) وبعدها تنظيم داعش، أعطى شرعنة وتبريراً لعنف النظام وآلته العسكرية خاصة أمام حاضنته الشعبية.
وبالمقابل، رفع المتظاهرون السوريون في بداية الثورة شعار “سوريا لكل السوريين” ولكن، سرعان ما تبين زيف هذا الشعار، وعدم تمثيله للواقع، بسبب اختطاف الثورة واختراقها من قبل التيار الإخواني أولاً، ومن قبل الدول والجهات التي لها مصلحة في تعميق وإطالة أمد الصراع السوري.
وتؤمن الأنظمة القوموية الشمولية، ومثلها المنهجيات القائمة على دعامة الإسلام السياسي “علانية” بنظرية المؤامرة إيماناً منقطع النظير، ولذلك جذور دينية عميقة (خاصة في اليهودية والإسلام) لسنا بصدد تفصيلها الآن.
فهذه النظرية، على الرغم من إدراك مروجيها عدم صحتها إلا أنها أنجع (تخدير عام) لتمويه وتسطيح أسباب الفشل الحقيقي، و محاولة الوقوف عنده و مداوته بقصد التهرب من المسؤولية التاريخية والأخلاقية أمام الشعوب والمجتمعات، مكتفية بإلقاء اللوم على الآخر المعادي..!!
فمثلما يؤمن نظام البعث بأن الحراك السوري ما هو إلا “مؤامرة كونية” كذلك تؤمن المعارضة بأن فشلها جاء نتيجة مؤامرات حيكت ضدها أيضاً، وقد نسمع منها عما قريب أنها أيضاً تعرضت لمؤامرة(كونية) هي الأخرى..!!
فنظام البعث في سوريا، لا يؤمن أبداً بوجود أي تشكيل أو جسم سياسي، حتى وإن كان تحت سقف الوطنية السورية، وكذلك لم تتقبل قوى المعارضة والفصائل المسلحة وجود أجسام أخرى مغايرة أو موازية له حتى شكلاً.
ولعل أحد أهم أسباب فشل طرفي الصراع في سوريا (نظاماً ومعارضة) في إيقاف الحرب والوصول إلى حلول جدية انطلاقاً من مطالب السوريين، هو العجز وعدم المقدرة على تحليل أو محاولة تفهم “مزاج” الإنسان السوري، الذي بدأ بالتبدل مع اشتعال “الربيع العربي” والذي رافقه ارتفاع الذائقة النقدية لأعلى مستوى للسوريين على اختلاف توجهاتهم، خاصة، ولغالبية مجتمعات الشرق الأوسط عامة.
وهي حالة طبيعية تُبرز في المجتمعات التي يُمارس عليها الكبت والقمع بكل أشكاله، ثم تجد نفسها فجأة بأنها قد اقتربت من التحرر من تلك القيود، ما ينتج عنه فشل في تحديد الأولويات لدى المجتمعات، وبالتالي تؤدي إلى اضطراب “هوياتي” خطير.
فالسوريون (تحديداً) الذين وصلوا لمرحلة المجابهة والرفض بجرأة وبصوت عال كل أساليب القمع التي مارسها النظام عليهم طيلة عقود، حتماً لن يرضوا بأن يكون البديل عن النظام مشاريع لا تقل سوءاً عنه، مثل مشاريع تنظيم القاعدة والخلافة الإسلامية والعثمانية الجديدة.
وجاء” الخط الثالث” في سوريا والذي انتهجته قوى ثورة التاسع عشر من تموز عام 2012 والتي انبثق عنها “مجلس سوريا الديمقراطية” فيما بعد، كضرورة ملحة للحفاظ على سوريا التي أودى بها النظام والمعارضة والتنظيمات الإسلامية الراديكالية إلى الدمار والتفتت والانهيار المجتمعي والأخلاقي.
وتسعى تلك القوى (نظاماَ ومعارضة) اليوم من التنصل من مسؤوليتها المباشرة عنها، خاصة مع ظهور بوادر “مراجعة نقدية” لواقع البلاد لدى السوريين من جمهوري المعارضة والنظام على حد سواء؛ إذ برزت مؤخراً شعارات “علانية” في مناطق الفصائل الموالية لتركيا تدعو قادة تلك الفصائل للتصالح مع قسد، بعد إعلان “أنقرة” التقارب مع “دمشق”، ومن غير المستبعد أن نرى تلك الشعارات تُطلق في مناطق سيطرة النظام أيضاً، وهذه النقطة تحديداً يدركها صناع القرار في شمال وشرق سوريا كونها مرهونة بمدى ثبات الخط الثالث السوري على نهجه الوطني، و مدى نجاحه مستقبلاً، وبالتالي هي مسؤولية أخلاقية تجاه كل السوريين أينما كانوا.
ويقوم “الخط الثالث” في سوريا على مبدأ النهج الوطني الرافض للعنف، وكل أشكال الإقصاء والتهميش، متشبثاً بالحوار، وتغليب لغة العقل والمنطق، ووضع مصلحة البلاد والمواطنين فوق كل الاعتبارات.
ولقد تسبب افتقار العديد من الدول والمجتمعات أثناء الأزمات والتحولات الخطرة للخط الثالث، إلى انهيارها بشكل تام، ولم تستطع التعافي لمدى عقود نتيجة فقدان هذا الخط، كالعراق، ثم ليبيا في الآونة الأخيرة.
ويسعى الخط الثالث السوري إلى السير بمنهجية مغايرة لكل الأطراف الصراع السوري، انطلاقا من تفكيك الأسباب الجوهرية التي جلبت البلاء للسوريين، ومحاولة استئصالها وعلاجها علاجاً جذرياً، والحفاظ على سوريا، ومحاربة المشاريع الإرهابية وعلى رأسها الإخوان المسلمين والنصرة وداعش.
والنقطة الهامة التي برزت مع صعود الخط الثالث في سوريا والتي يمكن الارتكاز عليها آناً ومستقبلاً، لجعلها ثقافة وطنية هي “ثقافة التسامح” التي تعاملت بها قوات سوريا الديمقراطية ضمن مناطق سيطرتها بعد القضاء على تنظيم داعش.
هذه الثقافة التي تفتقر لها التشكيلات السياسية والعسكرية في سوريا ماضياً وحاضراً. هي أحد أهم مكتسبات هذه المرحلة وأحد ركائز قوة الخط الثالث في سوريا؛ كونها من أهم المتطلبات الملحة للكثير من السوريين، خاصة، بعد انجرار بعضهم إلى مشاريع التطرف والإرهاب، فلا حل في هذه الحالة إلا بإحلال ثقافة التسامح للحفاظ عليهم أولاً، ولإعادتهم إلى سوريتهم إلى افتقدوها في فترة ما، ثانياً، ولفتح صفحة جديدة مع أبناء وطنهم ثالثاً.
ربما كل تلك الأسباب مجتمعة، أحد أهم مكامن قوة الخط الثالث في سوريا، وبالفعل، هذا ما تسعى له “مسد” منذ البدايات، وحتى هذه اللحظة، التي تحتفل فيها اليوم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بذكرى تأسيسها الرابعة.
والحقيقة، أن مناطق شمال وشرق سوريا ليست كـ “المدينة الفاضلة” لكنها قياساً بواقع مناطق النظام والمعارضة هي الأفضل والأكثر استقراراً. ففي هذه المنطقة توجد مقدرة وهمة عالية وجدية للتغلب على الصعاب وتجاوزها، على الرغم من كثرتها وتنوعها شكلاً ومضموناً.
ويعرف عن “الديموغرافية” أنها التعبير الأكثر وضوحاً وصدقاً عن الواقع، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ضمن جغرافية ما، ففي منطقة شمال وشرق سوريا الآن يعيش السوريون على اختلاف قومياتهم وأديانهم وثقافاتهم من كل بقاع الأراضي السورية؛ يمارسون حياتهم وأعمالهم بكل أريحية، وهذا انعكاس لحالة تعمل وتسعى الإدارة الذاتية وجناحها العسكري قوات سوريا الديمقراطية ومن خلفهما “مسد” إلى تكريسها وتعميمها على كل الجغرافية السورية.
ويوماً بعد يوم، تثبت الإدارة الذاتية أنها التجربة الامثل لحل الأزمة السورية، في حين أن غالبية مشاريع المعارضة سياسياً وعسكرياً ذابت وانهارت وفقدت حاضنتها الشعبية داخلياً، وهي في طريقها إلى الإفلاس إقليمياً ودولياً بسبب ارتهانها إلى الخارج كالدولة التركية؛ التي أعلنت بيعها مؤخراً وحولت عناصرها إلى مرتزقة سابقاً.
في حين، أن الصفعة التي تلقاها النظام اليوم، المتمثلة في فشل كل الجهود الرامية لعودته إلى “الجامعة العربية” سيكون لها منعكسات سلبية على علاقاته مع محيطه العربي والإقليمي، خاصة مع بعض الدول التي طبعت علاقاتها معه في الآونة الأخيرة، مما يؤدي إلى إعادة حسابات تلك الدول من جديد، أو على الأقل ستتراجع بعضها ممن تسير باتجاه التطبيع معه، وستتفهم جيداً الرسالة الدولية والإقليمية في استحالة “تعويم” النظام من جديد، أو التصالح معه، وفق صيغته الحالية (سيئة السمعة).
وبالمقابل، لدى شمال وشرق سوريا سيناريوهات جاهزة للتعامل ضد أي متغيرات دولية، أو تهديدات محتملة، ومهما كانت جدية من أي طرف، وخاصة من طرفي النظام وتركيا.
وركيزة شمال وشرق سوريا في هذه النقطة، هي التعويل على القوة العسكرية التي تمتاز بها قوات سوريا الديمقراطية، وعلى إرادة أبناء المنطقة وتماسكهم، وفي الدرجة الثانية تأتي علاقاتها الدولية التي بدأت تسير باتجاه التنامي تدريجياً وخاصة في الآونة الأخيرة.