نشرت مجلة أتلانتيك الأمريكية مقالاً مفصلاً للكاتب حسان حسان، الذي شارك في تأليف كتاب “داعش: داخل جيش الإرهاب”، يتحدث فيه عن السيرة الذاتية لأبو علي الأنباري، والذي يعتبره أكثر شخص عرّف نهج داعش الراديكالي. حيث يبين كيف بدأ الأنباري بتأسيس فكر تنظيم الدولة الإسلامية قبل الغزو الأمريكي للعراق وقبل التقائه بالزرقاوي. وقد استند في مقاله إلى السيرة الذاتية للأنباري التي كتبها ابنه عبد الله الأنباري مستنداً إلى 16 عاماً من العمل عن قرب مع والده، إضافة إلى مذكرات احتفظ بها الأنباري.
حيث يتفق معظم مؤرّخو الدولة الإسلامية بأن المجموعة انبثقت من تنظيم القاعدة في العراق رداً على الاحتلال الأمريكي في العام 2003، وبأن التنظيم تشكّل على يد الجهادي الأردني أبو مصعب الزرقاوي الذي ترأس تنظيم القاعدة في العراق. والزرقاوي، صاحب النظرة السوداوية، كان يرغب في تأجيج حرب أهلية بين السنة والشيعة وإنشاء الخلافة. وبالرغم من أنه قُتل في العام 2006، إلا أن رؤيته تحققت في العام 2014، وهو العام الذي اجتاح فيه تنظيم داعش شمال العراق وشرق سوريا.
وتركز غالبية الروايات التي تتحدث عن أصول إيديولوجية الدولة الإسلامية، على حقيقة أن الزرقاوي وأسامة بن لادن كلاهما من المتطرفين السنة، وأنهما اختلفا بشأن فكرة محاربة الشيعة ومسألة التكفير. وأن هذه الخلافات تعززت في العراق وأدت إلى الانقسام بين تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. وباعتماد تلك الافتراضات، يخلص الكثيرون إلى أن الزرقاوي هو من رسم فكر تنظيم الدولة الإسلامية.
ويرى الكاتب أن أسس تنظيم الدولة الإسلامية وضعت قبل غزو العراق بفترة طويلة، وأنه إذا ما كان هناك شخص مسؤول عن طريقة عمل المجموعة فهو عبد الرحمن القادولي، عراقي من نينوى، المعروف باسمه الحركي أبو علي الأنباري الذي عرّف نظرة الدولة الإسلامية المتطرفة أكثر من أي شخص آخر، حيث كان نفوذه أكبر وأطول أمداً وذو تأثير أعمق مقارنة بالزرقاوي. وبالاستناد إلى السيرة الذاتية التي كتبها عبدالله الأنباري وسلسلة المحاضرات التي قدمها الأنباري بين العامين 2014 و2015 والمقابلات التي أجراها الكاتب مع أعضاء التنظيم والثوار السوريين، يوضح المقال بأن الزرقاوي تأثر بالأنباري وليس العكس. فقد ولد الأنباري عام 1959 في شمال العراق لعائلة تركية متدينة من أصول عربية وأرمنية. درس الشريعة في معهد في مدينة تلّ عفر شمال العراق. تخرّج بعدها من جامعة بغداد حاملاً شهادة في الدراسات الإسلامية عام 1982 لينضم إلى الجيش العراقي ويخدم سبع سنوات فيه. وقد شارك في الحرب الإيرانية العراقية. وقد كتب ابنه: “لقد تلقى تدريباً عسكرياً ودينياً، وهو مزيج نادر”. وبعد خدمته العسكرية تم تكليفه بتدريس الشريعة في بلدة مجمع برزان الصغيرة. وهناك دعا أحد أغنياء البلدة الغجر لنصب خيمتهم وتقديم عروض الموسيقا والرقص، ما أثار غضب الأنباري معتبراً الحفلة فعلاً مدنساً. فعرض على تلاميذه 10 علامات إضافية لكل طالب لم يحضر الحفلة، لكن ذلك لم يكن كافياً. فخطط لقتل الغجر، لكنه لم يكن يمتلك بندقية، فطلب من أحد طلابه تأمين البنزين ليقوم بحرق الغجر داخل خيمتهم وهم أحياء. وألقى ببساطة في نهاية المطاف خطبة ضدّ الغجر والاحتفالات الفاحشة والمدنسة. وتحت تأثير ضغوطاً كبيرة، أرسل الغني “راعي الخيمة” الغجر بعيداً. لكن تلك الحادثة جعلت الأنباري يفكر بوجود خلل ما في حكومة قد تفكر بالسماح لحدوث مثل هذا الأمر.
وعيّن الأنباري مدرّساً في تلّ عفر في منتصف التسعينيات في مدرسة محلية في أحد أكبر الأحياء الشيعية، حيث تضم المدينة الشيعة والسنة، وأصبح بعدها إماماً في مسجد مجاور ليستخدم المنبر في مهاجمة الشيعة والصوفيين باعتبارهم طوائف منحرفة. وقد تأثر الأنباري بالأفكار الجهادية، بما فيها الخطابات الصوتية، التي خرجت من أفغانستان والشيشان. وازداد دعم الجهاد في العراق في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وكانت حكومة صدام حسين افتتحت ما يسمى بحملة الدين الإسلامي في أعقاب حرب الخريج عام 1991، والتي روّجت لأسلمة الدولة. كما حشدت الحكومة العراقيين للانضمام إلى جيش القدس التطوعي قبل سبعة أشهر من الهجمات، والذي كانت مهمته تتمثل بطرد اليهود من المدينة المقدسة. وبحسب أبو ماريا القحطاني، أحد مؤسسي تنظيم القاعدة في سوريا، فإن خطاب صدام حسين المتواصل والمناهض للولايات المتحدة الأمريكية حشد الكثيرين للقتال ضد النفوذ الأمريكي قبل الغزو وبعده. كما تم تدريب القحطاني من قبل نظام صدام حسين لتنفيذ عملية انتحارية محتملة في إسرائيل.
وأسس الأنباري وبعض من تلاميذه السابقين – بعد أحداث 11 سبتمبر- “نواة الإمارة”، وهي إحدى أشكال الدولة الإسلامية شمال العراق. وقد تم تدريب التلاميذ على سفوح التلال المحيطة بتلّ عفر من قبل أياد أبو بكر، وهو أحد المقربين من الأنباري. وقد استقطبت أحداث 11 أيلول المشهد الديني في العراق، حيث بدأ الأنباري والجهاديين ذوي الأفكار المتشابهة برؤية الإسلاميين المنافسين – بما فيهم الإخوان المسلمين – على أنهم أعداء، وهو الموقف الذي أصبح جانباً بارزاً في إيديولوجية الدولة الإسلامية.
حيث رأى الأنباري أن احتضان الإخوان المسلمين للأعراف السياسية ورفضها لتنظيم القاعدة هو خيانة، وأصبح يشير إلى الإخوان المسلمين في خطاباته بوصفهم “إخوة الشياطين”. ثم تلقى الأنباري رصيداً كبيراً من مجموعة من الكتب الجهادية التي كانت تتحدث عن عراق ما بعد 11 سبتمبر، خاصة التي كتبها أبو محمد المقدسي – مرشد الزرقاوي الأول في السجن- وعبد القادر بن عبد العزيز. حيث يصف عبد الله ما تلقاه والده من هذه المواد بأنه “صقل مفاهيم الشيخ وصحح عقيدته” في مسائل عدّة مثل الردة واعتماد القوانين التي أنشأها الإنسان. وقد التقى الزرقاوي بالأنباري في بغداد بعد شهر من وصوله في ربيع عام 2002 إلى شمال العراق من أفغانستان، حيث كان الزرقاوي في استضافة مبعوث لجماعة الجهاد الكردي أنصار الإسلام والذي كان صديقاً للأنباري. وتكررت تحركات الأنباري بين شمال العراق ووسطه لتسهيل النشاطات الجهادية حيث كانت الاستعدادات للجهاد تزدهر من حيث التمويل والأسلحة والرجال، وكل ذلك في ظل حكم البعث.
وتشير الدلائل إلى أن الأنباري هو من أسس لخطى التطرف التي أصبحت من سمات سياسات تنظيم داعش. فعندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، قاد كل من الأنباري والزرقاوي جماعات منفصلة لم تكن جزءاً من القاعدة بعد، حيث أعلن كل منهما الولاء عام 2004. وبدأت مجموعة الأنباري – بعد فترة وجيزة من الغزو – باستهداف أي شخص تعتبره مهرطقاً أو مرتداً في تلّ عفر. وهاجمت الشيعة والإخوان المسلمين والمخبرين بغض النظر عن العشيرة التي ينتمون إليها. وعلى النقيض من ذلك، استغرق الأمر أكثر من عام حتى تقبّل الزرقاوي مثل هذه الأعمال الطائفية المتطرفة. فبعد أن أعلن ولائه بشكل رسمي لابن لادن وأصبح رئيساً لتنظيم القاعدة في العراق, أرسل رسالة إلى القيادة المركزية للقاعدة يوضّح فيها خطته لمهاجمة المدنيين الشيعة ودور العبادة. فالزرقاوي لم ينحرف عن أقرانه الجهاديين إلا من خلال شخصيته، حيث كان سفاحاً وأكثر راديكالية. لقد تأثر بما كان يحدث حوله في العراق. وقد أرسل الزرقاوي الأنباري إلى باكستان في أواخر عام 2005 – ماراً بإيران بأوراق مزيفة – لإطلاع تنظيم القاعدة على شائعات بأن فرع العراق كان يصرف الجهاديين. ليقدّم عند عودته خطة لدمج القاعدة في العراق مع القوات المحلية الأخرى لتأسيس مجلس شورى المجاهدين في كانون الثاني 2006. وقد ترأس الأنباري المجلس مستخدماً اسمه المستعار الجديد “عبد الله رشيد البغدادي”، لتعلن نفسها بعد عام واحد على أنها دولة العراق الإسلامية، معززة العمليات ضد الشيعة والأمريكان بشكل كبير.
وقد ألقت القوات الأمريكية القبض على الأنباري في بغداد عام 2006، وبعد شهرين قتل الزرقاوي، حيث وصل نفوذهم إلى نهايته. وبالرغم من أنه بقي رهن الاعتقال حتى آذار 2012، إلا أن الأنباري بقي متورطاً في قضية الجهاد من خلال تجنيد زملائه السجناء. وبعد إطلاق سراحه، الذي دبّرته الدولة الإسلامية في العراق من خلال رشوة مسؤولين عراقيين، استدعاه أبو بكر البغدادي إلى بغداد ليوكل إليه مهمة حرجة وهي التحقيق فيما إذا كانت”جبهة النصرة”، فرع القاعدة في سوريا، لا تزال مخلصة للبغدادي. فوجد بأن قائد المجموعة في سوريا “أبو محمد الجولاني” كان شخصاً مخادعاً وذو وجهين. فتآمر عليه كل من البغدادي والأنباري وشكلّ كلاهما علاقات مستقلة مع أعضاء رئيسيين في جبهة النصرة. ثم أعلن البغدادي من جانبه دمج الفرعين. وبالرغم من أن هذا الاندماج لم يدم، إلا أن الكثير من قادة المجموعة انضموا إلى جماعة البغدادي. كما كان الأنباري مكلفاً بالتواصل مع القاعدة باسمه الحركي “أبو صهيب العراقي” لحل المشاكل الداخلية الجهادية، إلا أن جهود المصالحة فشلت وأعلن تنظيم القاعدة انفصاله عن تنظيم الدولة الإسلامية رسمياً في شباط 2014.
وبحسب كاتب المقال، فقد كان الأنباري بالنسبة للثوار السوريين هو وجه داعش عندما تفاوض معهم من أواخر عام 2012 حتى صيف 2014. وبعد السيطرة على الموصل، ركز اهتمامه الكامل على سنّ عقيدة المنظمة. وبالفعل، أصبح الإيديولوجي الرئيسي في التنظيم حيث درّب كبار رجال الدين وأوعز إلى الأعضاء بصياغة نصوص دينية وأصدر فتاوى بشأن القضايا الرئيسية التي تؤثر في الخلافة. وقد حكم على طيار أردني بالحرق، معوضاً رغبته في حرق الغجر في مجمع برزان، ثم قتل واستعبد الإيزيديين، كما أباد عشيرتين في سوريا والعراق كتنبيه ضد التمرد في أعقاب سيطرة التنظيم على ثلث العراق ونحو نصف سوريا، كما وصف الثوار السوريين المعتدلين عام 2013 بأنهم مرتدون. وعين البغدادي الأنباري للعمل كرئيس مالي للمجموعة، حيث شملت مهمته رحلات منتظمة بين سوريا والعراق لُيقتل في إحدى تلك الرحلات في آذار 2016 قرب مدينة الشدادي السورية، حيث حاول الأمريكان القبض عليه لكنه أقدم على تفجير نفسه بحزام ناسف.
ويرى المقال بأن الزرقاوي قد مجموعة جهادية تطورت لتصبح دولة العراق الإسلامية، ومنها إلى تنظيم الدولة الإسلامية. لكن من السطحية أن نقول أن داعش هي من بنات أفكار الزرقاوي. فقد اتفق الخبراء المتابعين لنشاط الزرقاوي منذ بداياته أنه لم يكن لديه رؤية طائفية واضحة قبل وصوله إلى العراق وأن أفكاره لم تتجاوز وجهات النظر الجهادية السائدة. حيث يشير هُشام الهاشمي، وهو مؤرخ عراقي للمجموعات الجهادية والذي يقدم المشورة للحكومة العراقية بشأن داعش, إلى ثلاثة إيديولوجيين عراقيين رسموا بشكل مباشر نهج وتفكير الزرقاوي، شخصياتهم تشبه الأنباري من حيث التدريب الديني وجميعهم كانوا مطلوبين من قبل النظام السابق بسبب أنشطتهم وأفكارهم المتطرفة وهم: أبو عبد الرحمن العراقي، وهو مساعد سابق للزرقاوي ويقبع الآن في السجن، نظام الدين الرفاعي، والذي سجن مرات عدة ابتداءاً من 1978 لتورطه في حركة الموحدين السلفيين، والقابع اليوم في السجن أيضاً، وعبد الله عبد الصمد المفتي، والذي كان مطلوباً منذ عام 1991 والذي يرعى الإيديولوجية السلفية بشكل كبير في العراق. وبحسب الهاشمي، فقد قدم هؤلاء الجهاديين العراقيين الثلاثة أفكاراً رفضها تنظيم القاعدة لتحتضنها داعش، بما فيها الطائفية المتطرفة ومفهوم الدولة الإسلامية. ويؤكد الهاشمي بأن رجال الدين هؤلاء لديهم مدرسة كاملة للفقه والمنهجية بالإضافة إلى النصوص الدينية التأسيسية، وأن الزرقاوي كان مجرد قائد يعمل بحسب نهجهم، ما جعل وجهة نظره تبتعد عن المقدسي وبن لادن بعد اختلاطه مع الشعب العراقي.
ويختم حسان مقاله بأن ما يميز الأنباري عن رجال الدين هؤلاء هو أنه، إضافة إلى إبداء وجهات النظر الطائفية المتطرفة قبل ما لا يقل عن عقد من ظهور الزرقاوي، كان له دور تنظيمي رفيع المستوى داخل تنظيم القاعدة في العراق وبعدها ضمن داعش، كما كان رجل الدين الأطول خدمة والأعلى رتبة ضمن التنظيم منذ إنشائه حتى وفاته. وبحسب الدور الرئيسي الذي لعبه الأنباري في تشكيل داعش والأحداث التي بنت زعماء مثله قبل غزو عام 2003، فإن التنظيم لم يكن مجرد خلق جهادي أردني. حيث يبدو أن الزرقاوي انقاد إلى بلد تم مسبقاً فيها تحديد الخطوط الإيديولوجية الرئيسية للجماعة ليقودها هو في يوم من الأيام متأثراً بالبيئة التي أسسها الأيديولوجيين الأصليين أمامه. وبالتالي فإن داعش نمت لعقد من الزمان قبل الغزو الأمريكي وقبل وصول الزرقاوي ما يفسر قدرة الزرقاوي على الصعود والهيمنة في دولة تمتاز بالتنوع الطائفي والعرقي مثل العراق.
المصدر: وكالات محلية