هل حان وقت تسوية الأزمة السورية ؟

فشلت جميع المبادرات التي طرحت منذ إندلاع الأزمة السورية عام 2011 في إيجاد تسوية لها حتى الآن، بل تدل كل المؤشرات بأنها وصلت إلى طريق مسدود، فمرجعية جنيف وفق القرار الدولي /2245/ باتت في حكم الميت سريرياً، ومرجعية سوتشي انتهت عملياً مع معركة إدلب ولم تعد للجنة الدستورية المشكّلة أي فعالية، فيما لم تكن للمبادرات العربية والإقليمية التي طرحت أي أثر يذكر، ولعل السبب الأساسي لفشل هذه المبادرات يتعلق بحسابات الأطراف المتصارعة محلياً وإقليمياً ودولياً، فنهج القوة الذي اعتمده النظام وصل إلى نقطة مسدودة لم يعد من الممكن الاستمرار به في ظل المعادلات التي تشكلت في مناطق شمال غربي سوريا (إدلب) وشمال شرقي سوريا (شرق الفرات).

فالمنطقة الأولى باتت بإدارة روسية – تركية مشتركة وتخضع لحسابات المصالح العليا بين البلدين التي هي أكبر من المصالح الخاصة بالأزمة السورية، وبالتالي أي تحرك عسكري في هذه المنطقة لا بد أن يكون وفق الرؤية الروسية، وهو ما ينبغي استيعابه في ظل المصالح الكبرى التي تجمع بين موسكو وأنقرة، بينما تخضع المنطقة الثانية أي شرق الفرات للنفوذ الأمريكي رغم زيادة النفوذ الروسي فيها عقب التداعيات التي خلفها الاحتلال التركي للمنطقة الممتدة بين تل أبيض ورأس العين – سري كانيه.

ورغم المشاحنات التي تحصل بين القوات الروسية والأمريكية بين الحين والآخر في هذه المنطقة إلا أن العلاقة بين الجانبين تخضع في النهاية لضوابط التفاهمات العليا بينهما، وعليه ينبغي النظر إلى أن الاستمرار في الخيار العسكري وفقاً للمعادلة السابقة قد يكون كارثياً لجهة النتائج، ولاسيما في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في سوريا فضلاً عن تحديات انتشار وباء كورونا.

في المقابل، فإن نهج المعارضة الذي قام أيضاً على القوة والعسكرة لم ينجح في إسقاط النظام كما أعلنته قوى المعارضة خلال السنوات الأولى من الأزمة، كما أن المعارضة فقدت مصداقيتها وشعاراتها بعد أن ربطت نفسها بالأجندات الإقليمية ولاسيما التركية والقطرية والسعودية، وباتت مجرد أداة لهذه الدول التي تحولت إلى ممول لها وفقاً لشروطها السياسية، بل وصل الأمر بهذه الدول إلى التحكم بتشكيل مجالس وقيادات المعارضة ولاسيما الائتلاف الوطتي الذي يتحكم به الإخوان المسلمون برعاية تركية مباشرة إلى درجة أن الائتلاف بات يعمل وفق أجندات تركيا ومصالحها وليست وفق مصالح الشعب السوري، وفي قراءة عامة للمشهد يمكن القول إن خمسة أطراف أساسية هي التي تؤثر في الأزمة السورية وتحدد ملامحها:

الأولى – روسيا التي هي القوة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في مسار الأزمة السورية منذ تدخلها العسكري في سوريا، ومع أن روسيا نجحت من خلال دعم الجيش السوري في استعادة مناطق واسعة لسيطرة النظام، إلا أنها وصلت إلى مرحلة التحديات الكبرى التي تجعل من أي تحرك جديد محفوفاً بالمخاطر، ففي إدلب يبقى الصدام مع التركي احتمالاً قائماً، كما مع الأمريكي في شرقي الفرات، وهو ما يجعل الحسابات الروسية خاضعة للمصالح والتسويات كما ظهر جلياً في معركة إدلب الأخيرة والتي توقفت تحت تأثير المصالح العليا التي تربط بين تركيا وروسيا.

الثانية – الولايات المتحدة التي حصرت نفوذها في شرق الفرات تلك المنطقة المهمة والحيوية لا لجهة الموارد الاقتصادية والنفطية والمائية فقط، وإنما لأسباب لها علاقة بأمن المنطقة ككل، ولاسيما العراق حيث القواعد الأمريكية وأهمية قطع الطريق أمام المشروع الإيراني، وعليه رغم قرارات ترامب بسحب قواته من سوريا إلا أن الإدارة الأمريكية أبقت على هذه القوات، بل عززت من وجودها العسكري هناك في تأكيد أنها باقية انطلاقاً من استراتيجيتها التي تتجاوز حسابات الأزمة السورية.

الثالثة – تركيا التي رأت في الأزمة السورية فرصة ذهبية لإعادة أمجاد الدولة العثمانية بعد التطورات التي حصلت في تونس ومصر وليبيا واليمن، وعليه استغلت كل الفرص واستخدمت كل الوسائل بما في ذلك دعم الإرهاب والقيام بعمليات غزو واحتلال لمناطق واسعة من شمال شرقي سوريا إلا أن التحرك التركي بدا في النهاية محكوماً بمعادلات إقليمية ودولية تقوم على الصفقات، وهي معادلات توحي بأن المشروع التركي يجب أن يتوقف عند ما وصل إليه بانتظار تسوية سياسية منشودة تراعي الهواجس والمصالح التركية في شمالي سوريا كما يظهر من التحركات والتصريحات الأمريكية والروسية.

الرابعة – إيران التي لها علاقات قديمة و وثيقة مع النظام السوري، إذ استفادت إيران من الأزمة السورية في زيادة نفوذها وزج الجماعات المسلحة المرتبطة في الساحات السورية حتى أصبحت هذه الجماعات طرفاً أساسياً في معظم – إن لم نقل جميع- المعارك التي جرت في سوريا، وقوة مؤثرة فيها، لكن مشكلة المشروع الإيراني أنه يواجه رفضاً من جميع القوى الإقليمية والدولية.

كما أن معظم الدول تشترط في أي تسوية بخروج إيران وجماعاتها من سوريا، بل إن إسرائيل كثفت من استهدافها العسكري لهذا الوجود وسط ضوء أخضر أمريكي وتفهم روسي للعمليات الإسرائيلية التي باتت شبه يومية، ولعل هذا الواقع الصعب قد يدفع بإيران إلى التفكير جدياً في إيجاد تسوية للأزمة السورية ولاسيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها حيث العقوبات الأمريكية القاسية، فضلاً عن العصا الغليظة التي ترفعها واشنطن بعد قتل الجنرال قاسم سليماني وأبو فؤاد المهندس.

الخامسة: إسرائيل التي تبدو في الظاهر غير معنية كثيراً بالأزمة السورية ولكن في حقيقة الأمر هي أكثر جهة تسعى عبر مسارات متداخلة عسكرياً وسياسياً وأمنياً لترتيب الوضع السوري وفق مصالحها الإقليمية، ولعل ما يهمها بالدرجة الأولى وجود نظام لا يشكل تهديداً لها ولا يكون على علاقة استراتيجية مع إيران وحزب الله.

في الواقع، رغم تضارب مصالح هذه الأطراف وأجنداتها تجاه الأزمة السورية إلا أن ثمة قناعة ترسخت لدى الجميع باستحالة قدرة طرف من هذه الأطراف على حل الأزمة وفقا لأجنداته، كما ثمة قناعة باستحالة قدرة المبادرات السابقة، بما في ذلك جنيف وسوتشي، في إيجاد تسوية للأزمة السورية، وهو ما يدفع بالجميع إلى إعادة التفكير بنهجهم في إدارة الأزمة، ومع هذا المتغير تبدو الواقعية السياسية حاجة ملحة على شكل تفهم للوقائع والمعطيات التي تشكلت على الأرض سياسياً وإدارياً واقتصادياً وتنظيمياً، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لتشكيل مرجعية سياسية كردية واحدة في شرق الفرات وبالتوافق مع المكونات الأخرى في المنطقة.

كما ينبغي النظر بالمنظار نفسه إلى الجهود التركية الهادفة إلى إعادة ترتيب وضع الجماعات المسلحة بما في ذلك جبهة النصرة في شمال غربي سوريا وذلك بالاتفاق مع روسيا، وفي الوقت نفسه إلى الحملة الحادة التي وجهتها الصحافة الروسية إلى النظام في موقف لا يمكن رؤيته بعيداً عن ما تضمره السياسة الروسية حيث باتت موسكو تحس بوطأة أعباء الأزمة السورية أكثر من أي وقت مضى ولا سيما مع انهيار أسعار النفط بالتزامن مع انخفاض كبير في قيمة الروبل الروسي أمام الدولار.

في الواقع، مع الإشارة إلى أن اللاعبين الإقليميين استُنزفوا في الأزمة السورية فإنه لا يمكن النظر إلى المعطيات السابقة بعيداً عن حسابات الدول الكبرى وطريقة إدارتها للأزمة، وهي معطيات ربما تجعل التسوية أقرب من أي وقت أخر، فالجميع استنزف وبات أقرب إلى القبول بحلول وسط رغم تظاهر بعض الأطراف بغير ذلك.

 

 

 

خورشيد دلي