صالح مسلم
يشهد العالم في الفترة الأخيرة توتراً كبيراً في البحر المتوسط وشرقه بالتحديد تأخذ تركيا مكاناً مركزياً فيه، ومن دون شك هناك ما يقال في العلن من ذرائع وحجج وهناك الحقيقة المخفية وراء كل ما يجري، والحكم حسب الظاهر لا شك سيكون خاطئاً أو ناقصا يؤدي إلى أحكام خاطئة، لذا لا بد من العودة إلى جذور الدوافع وكشف الحقائق التي لا يريد مفتعلوا الأزمة إظهارها.
مسببات الأزمة هي أولاً شخصية أدوغان وثانياً فإن جذورها تتعلق بالتاريخ العثماني الحديث. بينما ممارسات أردوغان ونتائجها فستكون كارثية على شعوب المنطقة وشعب تركيا.
أما شخصية أردوغان فهي تنتمي لظروف نشأته في عائلة متواضعة الأحوال المادية في حي “قاسم باشا” الشعبي حيث اضطرت أسرته إلى إرساله إلى معاهد “إمام خطيب” الشرعية التي تخرج أئمة وخطباء للمساجد، وكانت شهادات خريجيها لا تؤهل حامليها لممارسة الوظائف العامة قبل التعديلات الأخيرة. وكان طيب أدوغان من فتوة الحي الذين يتباهون بعضلاتهم وتهورهم كما كل الأحياء الشعبية. ولضيق الحال اضطر إلى العمل كبائع متجول للكعك (سيميت) حيث لا حاجة للرأسمال، وكان يستريح في المساجد إلى أن التقى به أحد أعوان “فتح الله غولان” وضمه إلى جماعته في حزب الرفاه الذي يرأسه أرباكان وكان واجهة لجماعة فتح الله. ونظراً لشخصيته المغامرة وأسلوب خطابته ودعم الجماعة له أصبح من المقربين للقيادة، واختاروه رئيساً لبلدية إسطنبول، ونظراً لخطابه الديني المتطرف الذي يتعارض مع التوجه العلماني للدولة تم القبض عليه وحكم عليه بالسجن، مما زاد من التفاف التيار الديني حوله.
في أعوام 1999- 2001 التم شمل عدة شخصيات كانت تعمل ضمن حزب الرفاه لتلتقي بـ”غولان” وذهبوا في زيارة غامضة إلى الولايات المتحدة ليتخذوا قراراً بتأسيس حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، ونظراً للتحضيرات الكبيرة داخلياً وخارجياً من حيث الدعاية والتمويل استطاع الحزب الجديد الوصول إلى السلطة في انتخابات 2002 ولا زال على رأس الحزب. ومن أقواله الشهيرة “الديموقراطية كالتاكسي أركبها عندما أحتاج وأنزل منها حينما أصل إلى هدفي”، فبعد أن نزل منها استطاع أن يتحكم في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وبات ديكتاتوراً بلا منازع.
أما التاريخ العثماني الحديث فيقول عندما عجزت الدولة العثمانية عن مواكبة العصر وباتت مديونة لكل القوى العالمية وانتشرت أفكار “الدولة القومية” استطاعت دول البلقان بما فيها اليونان التخلص من الاستعمار العثماني في القرن التاسع عشر، ولكن الروم الذين كانوا يقطنون في الأناضول وغربها ظلوا على أرضهم وموطنهم، ومع انهيار الدولة العثمانية نتيجة للحرب العالمية الأولى تم توقيع معاهدات الاستسلام على العثمانيين بما فيها اشتراط التخلي عن نظام الخلافة في لوزان ورسم الحدود البرية والبحرية وآلاف الجزر في بحر إيجة، بما فيها اثنتي عشر جزيرة قريبة من البر التركي وترى بالعين المجردة، ولكن القوى المنتصرة فرضت تبعيتها لليونان كون سكانها من الروم. وعندما حدث خلل في النظام العالمي عرضت ألمانيا وبعدها الحلفاء إلحاق الجزر الاثنتي عشر بتركيا مقابل ضمها كحليف إلى الحرب لجانبها ولكن تركيا رفضت. وبعد الحرب العالمية الثانية انضمت تركيا إلى الناتو واستمدت منه القوة لاحتلال شمال قبرص عام 1974 ولا زالت تحتفظ على أرضها بما يزيد عن خمس وعشرين ألفاً من جنودها. وعندما لم يرغمها أحد على الانسحاب، بدأت تشعر بأنها باتت قوة كبيرة قادرة على تسخير السياسات والمخططات العالمية لصالح أطماعها، إلى أن أتت الفرصة بعزم قوى الهيمنة العالمية على إعادة ترتيب “الشرق الأوسط الجديد” فحشرت نفسها كرأس حربة لمخططاتها لجعل التوازنات في خدمة أطماعها.
شخصية أردوغان توحدت مع الأساطير والمكائد العثمانية التي تلقاها في معهد إمام خطيب وتاريخ الخلافة العثمانية من منظور الإخوان المسلمين (الجماعة) توحد مع الوضع الذي آلت إليه في بدايات القرن العشرين ومن ثم العلمانية التي كرسها مصطفى كمال أتاتورك ليجعل من تركيا دولة حديثة تطرق باب الاتحاد الأوروبي بمعاييرها ومقاييسها، ولولا المعايير الأوروبية التي تفرض حقوق الإنسان وحرية التعبير والديموقراطية التي يمكن أن يستفيد منها الشعب الكردي لأصبحت تركيا دولة عضو فيها. وظهر في تركيا من طالب بدمقرطتها، ولكن ذهنية أردوغان وأعوانه وجد أن كل ذلك مجرد مؤامرة للنيل من عظمة تركيا، وفضل أن يمتثل ذهنية السلطان عبد الحميد وفكر الاتحاد والترقي والتنكر لكل ما بناه أتاتورك بما فيها الشروط الاستسلامية التي فرضت على العثمانيين، والتنصل من معاهدة لوزان التي رسمت الحدود واشترطت التخلي عن الخلافة الإسلامية والمطالبة بالجزر الاثنتي عشر، وحق الملاحة في بحر إيجة والبحر المتوسط الذي يحتوي كنزاً من موارد الغاز الطبيعي.
فما كان من أردوغان إلا أن يرمي عفشه على أرض الآخرين ويقول لهم “تعالوا لنتفاوض في أي قسم من هذه الأرض سأجلس” وهو يعني فيما يعني “أنني أصبحت قوياً ولا أرضى بالاستسلام، وعليكم الرضوخ لكل ما أرغب وإلا سنعتبر الحرب العالمية الأولى لم تنته”.
نعم هذا هو لسان حال أردوغان والفاشية التركية، فهل سيرضخ العالم للعثمانية الجديدة؟