تظهر مؤشرات مختلفة ترجح من إمكانية شن تركيا لهجوم جديد على شمال وشرق سوريا، وذلك بالتوازي مع استمرار التحركات العسكرية من تقليص الوجود العسكري وتعزيزه في نفس الوقت من قبل تركيا، وخاصة إخلاء قاعدة مورك في ريف حماة الشمالي، وتعزيز لوجودها العسكري في منطقة تل أبيض وشمالي عين عيسى، أثار تساؤلات كثيرة حول التوجهات العسكرية التركية المحتملة في الشمال السوري في الأيام القادمة.
مازالت تركيا تصر على احتلال مزيد من المناطق في شمال سوريا، على رغم من وجود مواقف مضادة وقوية من تواجدها العسكري في سوريا وخاصة بعد العملية الأخيرة في العام الماضي، حيث بات واضحاً أن أية عملية أخرى ستساهم في توسيع دائرة التناقضات والخلافات مع أوروبا وخاصة فرنسا، وضمن المعادلة السياسية أيضاً، بين القوى المعنية بالأزمة السورية، حيث أحتلت بعض مناطق الشمال السوري نتيجة تفاهمات وتقاطع في المصالح، فرضتها الظروف المتناقضة لأهداف هذه القوى، وعلى ضوء ذلك هددت تركيا في الفترة القليلة الماضية بشن هجوم عسكري جديد على المنطقة، مع الاستمرار في استهداف المدنيين والقصف على منطقة عين عيسى.
تزامنت التهديدات التركية مع ظهور حالة من ضبط النفس بين القوى الدولية والإقليمية حول الملفات الخلافية والصراعات، لتدارك ما سيترتب على تصرفاتهم في المرحلة المقبلة بعد الانتخابات الأمريكية، بينما تركيا تستغل الأجواء الانتخابية في الولايات المتحدة، لتنفيذ أهدافها في الشمال السوري.
الدوافع الكامنة في هذه التهديدات:
ـ محاولة لإعادة صياغة التفاعلات السياسية والعسكرية الحالية.
تصر تركيا على الاستمرار في سياساتها العدوانية على الشمال السوري، لتوافر المقومات التي تعزز من توطيد أركان الإدارة الذاتية في سوريا المستقبل، ولوجود تجاذبات دولية تعاكس السياسة التركية، وهذا ما أكدتها المستجدات التي حصلت في شمال وشرق سوريا خلال هذا العام، حيث تحاول تركيا ضرب فاعلية المسار السياسي التي ترتسم في هذه المنطقة، هذه الفاعلية أثبتت أهمية الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ضمن المعادلة السورية، وأنها منطقة تجاذب دولي، فالاستقرار الأمني الذي حققتها قوات سوريا الديمقراطية مقارنة مع المناطق السورية الأخرى، دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتماد على هذه القوات والمناطق التي تتواجد فيها وعدم الانسحاب الكامل، كون الجغرافية السياسية السورية لاتزال تلعب دوراً محورياً للقوى الدولة والإقليمية في إرساء أي توازنات مستقبلية في المنطقة، فالتوزان السياسي النسبي الحاصل نتيجة الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة الأمريكية والبقاء في المناطق الشرقية وتعاطيها مع الشأن السوري من خلال ممارسة الضغوطات على كافة القوى الأخرى في سوريا اعتماداً على تواجدها في المناطق الغنية بالثروات النفطية، وإخفاق روسيا في تحقيق الغايات التي أتت من أجلها إلى المنطقة في أكتوبر من العام الماضي بعد أن أحتلت تركيا سري كانيه وكري سبي، ما أدى هذا الإخفاق بعد المحاولات الروسية الحثيثة وبشتى الطرق والوسائل لإخراج الولايات المتحدة، إلى بروز حالة من الاستقطابات أزعجت تركيا، فالمحاولات الروسية في احتواء التجربة الديمقراطية في شمال وشرق سوريا وحصرها ضمن مسار سياستها في سوريا، من خلال رغبة شركاتها في الحصول على استثمارات في المنطقة، ودعوة روسيا لمجلس سوريا الديمقراطية، وممارسة الضغوطات على النظام لتغيير اسلوبه في التعامل مع الإدارة الذاتية في الفترة الماضية، جميعها تدخل في إطار السعي الروسي لكسب الإدارة الذاتية، ومقابل ذلك أدركت الولايات المتحدة الأمريكية خطورة المتغيرات التي حصلت بعد الانسحاب من الحدود السورية التركية في العام الماضي وإعادتها للتموضع في المنطقة.
مجمل هذه التطورات دفعت تركيا إلى التهديد بعملية عسكرية جديدة، ويعتبر هذا التهديد بمثابة رسائل إلى روسيا تفيد بإمكانية التخلي عن منطقة مقابل منطقة أخرى، أي تعزيز لفرص الوصول إلى تفاهمات والتي تبدو مؤشراته جلية في إدلب في ظل انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية، ولأن تركيا تدرك جيداً أن الولايات المتحدة باقية في سوريا ولن تنسحب، وكون روسيا هي المعنية بالمنطقة الشمالية أكثر من أمريكا، بعد الاتفاقية الأمنية الموقعة بين الطرفين.
ـ تفاقم القلق من فشل الأجندات الأمنية والسياسية التركية بعد عقد سلسلة من الحوارات الكردية- الكردية.
تعزز في الفترة الأخيرة فرص تحقيق الوحدة الكردية في سوريا، برعاية من قوات سوريا الديمقراطية والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما يؤدي بدوره إلى تعزيز دور العامل الكردي المؤثر في المعادلة السورية، وهذا ما تخشاه تركيا، وخاصة أن الحوارات تجري برعاية دولية لإنجاحها، وهذا ما يدفع بتركيا إلى أتباع استراتيجية ناعمة وصلبة في نفس الوقت، للتعامل مع الترتيبات التي تتم صياغتها ورسمها في ملف القضية الكردية في سوريا، من ممارسة الضغط على مجلس الوطني الكردي بهدف إنهاء الحوار من خلال مطالبة المجلس بشروط تلغي خصوصيات الإدارة الذاتية، والقيام بالهجمات على مناطق الإدارة الذاتية في تل أبيض وعين عيسى.
أبرز المسارات للتهديدات.
لا تبدو الرؤية التركية واضحة فيما يتعلق بترتيبات عمليتها العسكرية المرتقبة، خاصة في ظل تضارب وتباين التصريحات الروسية حول الكرد مؤخراً، وعدم تبلور سياسة أمريكية حول شمال وشرق سوريا في الفترة القادمة في ظل رئاسة جديدة، ويمكن طرح مسارين للتعاطي التركي مع الشأن السياسي والعسكري في شمال وشرق سوريا في الفترة الحالية: المسار الأول يتمثل في استمرار تهديد المنطقة ومطالبة روسيا بعقد صفقات جديدة، منطقة على حساب منطقة أخرى، لإضعاف الإدارة الذاتية في المناطق الواقعة ضمن التواجد الروسي، والذي يدفع بروسيا إلى عدم القبول بذلك هي الاستراتيجية الامريكية لجهة خسارتها للكرد وعدم الحصول على الثروات في المنطقة نظراً لبقاء القوات الأمريكية.
ويتعلق المسار الثاني للتهديدات بالترتيبات السياسية القادمة حول مختلف الأزمات في المنطقة برمتها، والسياسية الأمريكية الجديدة، فالهجوم العسكري التركي في الفترة المقبلة مرهون بمعرفة تركيا لتبعات الأزمات الفاعلة فيها على مصالحها وعلى وجودها.
NRLS