الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن واستعادة القيادة الأمريكية

لاشكَ أن السنوات الأربعة التي مضت بوجود دونالد ترامب على رأس هرم السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية قد أحدثت شروخا كثيرة وبلبلة في السياسات الدولية والحراك العالمي لما قام به الرئيس الأمريكي ترامب من خطوات بدت مفاجئة للعديد من المراقبين الدوليين ومحللي السياسات الاستراتيجية.

وبالعودة إلى شخصية الرئيس الأمريكي ترامب قد نجد بعض الإجابات على تلك الخطوات والقرارات السريعة والغريبة إلى حد ما، ففي حوار قديم أجرته قناة CNN الأمريكية مع ترامب عندما كان شابا ورجل أعمال ، سألته مقدمة البرنامج إن كان سيترشح يوما ما للرئاسة، وما سيقوم به إن فاز فأجاب حرفيا : ” إن الولايات المتحدة الأمريكية تتعرض للسرقة منذ اكثر من خمس وعشرين عاما، لدينا ديون على السعودية جراء حمايتها تقدر ب 19 تريليون دولار، وسوف استعيدها، إن دول الخليج ليس لديها سوى الأموال، ونحن نحميهم بلا مقابل، وهذه سرقة، يجب ان يدفعوا لنا، كذلك اليابان وكوريا الجنوبية “

إنه المنطق البراغماتي المستند لقيم السوق والبورصات العالمية، دونما أعتبار لمن سيقع عليهم الضيم، وإنه منطق الرأسمالية الحداثوية والامبريالية في أبشع تجلياتها، وقد شاهد العالم كله ما حصل عليه ترامب من أموال أثناء زيارته للسعودية، ومن هنا أيضا يمكن تفسير معظم خطواته الأخرى مثل خفض عدد القوات الأمريكية إلى النصف في أفغانستان، وقرار الانسحاب من سوريا وخفض القوات في العراق، وهنا استغلت روسيا استراتيجية ترامب الربحية، وقوت علاقاتها و وسعت خطواتها وتمددت في المنطقة، وعقدت الصفقات المريبة مع تركيا، وباعتها منظومة صواريخ أس 400 دون أن يحرك الناتو ساكنا، بعد أن تغاضت إدارة ترامب عن ذلك، حيث إن المصالح المالية والصفقات التجارية الضخمة بين صهر أردوغان وشركات  ترامب هي الأهم في نظر الرئيس الأمريكي، والذي أعلن بشكل مفاجئ انسحاب قواته من شمال وشرق سوريا فاتحا الطريق أمام تركيا ومرتزقتها باحتلال كل من سرى كانيى وكرى سبي، وقبلها فعلت روسيا كذلك في عفرين بالإضافة الى انسحاب الإدارة الأمريكية من عدة اتفاقيات كاتفاقية المناخ، والاتفاقية النووية حول برنامج إيران النووي، وإهمال العلاقات الأمريكية الاوربية، كل هذا جعل دور الولايات المتحدة يتراجع عالميا، وتسوء سمعتها، رغم مسارعة ترامب للقيام بوساطات والضغط على بعض الدول العربية لعقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل لكسب أصوات اللوبي اليهودي في الانتخابات.

في هذا المناخ المشحون بالقلق والترقب جاءت الانتخابات الأمريكية وكانت بين الرئيس الحالي دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي جو بايدن، والذي كان نائبا للرئيس في إدارة باراك أوباما.

حري بالقول إن الشرق الأوسط بشكل عام كان قد صار في آخر أولويات الإدارة الامريكية، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية (سوريا لبنان الأردن الخ) فمثلا لم يعد يرى ترامب في سوريا إلا ” منطقة رمال خالية من المكاسب المالية الحيوية ” كما صرح ذات مرة.

وبعد ان اشتدت المنافسة في الانتخابات حبس العالم أنفاسه، بانتظار النتائج، والتي تكشفت فيما بعد عن فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن ، وتعنت ترامب وسعيه لتقديم شكوى  بحجة التزوير في الانتخابات.

من كل هذا  يهمنا الآن محاولة قراءة السياسة القادمة للإدارة الامريكية بوجود بايدن، وذلك من خلال تصريحاته، قبل وأثناء وبعد الانتخابات التي فاز بها لاسيما ما يتعلق بالموضوع الكردي الذي يبدو من خلال تصريحاته أنه سيتعامل مع القضية الكردية بخلاف ما قام به ترامب الذي : ” تخلى عن حلفائه في الحرب على الإرهاب بعد دحر تنظيم داعش” والقصد ” قوات سوريا الديمقراطية ” التي تعرضت لأبشع الهجمات من طائرات تركيا وجيشها الذي احتل كلاً من عفرين وسرى كانيى وكرى سبي.

أولا: الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة:

يرى بايدن إن الوجود الامريكي في المنطقة ضرورة لحماية الأمن القومي والوطني الأمريكي، وحماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو كسلفه ترامب مع فكرة تقليص عدد القوات، والفارق بينهما في هذه النقطة أن ترامب كان ” مزاجيا ” أي ربما في لحظة يقرر سحب القوات كلها فهو حقيقة يفتقر إلى البعد الاستراتيجي في قرارته  في حين يبدو بايدن أكثر واقعية، وهذا ما صرح به بايدن فيِ مقابلة مع مجلة الجيش الأمريكي ستارز اند سترايبز : ” إن عصر الحروب اللانهائية يجب أن ننتهي منه ”  وقال : ” يجب أن تنتهي هذه الحروب التي لا نهاية لها. أؤيد تخفيض القوات في الخارج لكن لا يجب ان نغفل عن مسألة الإرهاب وتنظيم الدولة الإسلامية”.

 

هناك بعض الأراء بين أوساط المراقبين أن بايدن لن يولي الشرق الأوسط الاهتمام الذي تعتقده الأنظمة والجماعات المتعددة في الشرق الأوسط، وذلك بحسب رؤية بايدن بتراجع دور النفط وموقفه الداعم للحد من التغييرات المناخية، والتوجه نحو الطاقة البديلة، وتحديات أخرى كثيرة تهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومكانتها وصورتها التي اهتزت لدى الرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والبيئة.

ثانيا: محور إيران:

صرح بايدن أكثر من مرة بأنه مستعد لإعادة الانضمام لاتفاقية دولية تقضي بتخفيف العقوبات المفروضة على إيران مقابل تقليص برنامجها النووي. والتي قد انسحب منها سلفه ترامب.

فبايدن يرى إن سياسة: ” أقسى العقوبات والضغوط ” قد فشلت، وأدت إلى تصعيد كبير وتوتر فيما بين حلفاء أمريكا وبالتالي فإن إيران صارت الآن أقرب إلى امتلاك السلاح النووي ويرى بايدن إن انضمام أمريكا ثانية للاتفاق النووي والتزام إيران به قد يحد من تطوير قدرات إيران النووية. وإن كان بايدن لا يريد رفع العقوبات عن إيران بسهولة.

ثالثا: محور روسيا:

من المعلوم إن إدارة ترامب قد أطلقت يد الرئيس الروسي بوتين لتمتد إلى ما تشاء في عدة دول لاسيما سوريا وليبيا وحتى  إيران، وهي مناطق ساخنة واستراتيجية في الشرق الأوسط، مما صارت روسيا تصول وتجول في المنطقة وتعقد الصفقات مع تركيا مقابل تثبيت مصالحها، فروسيا تعتقد أن تركيا سترحل يوما عن هذه المناطق وبالتالي تبقى هي صاحبة الكلمة الفصل  تحديدا في سوريا وليبيا ومن هنا تراجع الدور الأمريكي كثيرا في هذين البلدين وصارت تركيا تحتل ما تشاء من الأراضي وبرعاية روسية مطلقة، وغض نظر أمريكي.

في حين يرى بايدن أنه يريد العمل مع موسكو للحفاظ على ما تبقى من المعاهدات التي تحد من الترسانة النووية للبلدين ومن قبل قد انسحب ترامب من معاهدتين، ويسعى بايدن لتمديد معاهدة ثالثة تتعلق بالترسانة النووية الروسية، وتنتهي موعدها في شباط فبراير القادم كما صرح خلال حملته الانتخابية.

ولا شك أن ذلك سيؤثر على العلاقة الروسية التركية كون أنقرة عضو في الناتو بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، وعليها الالتزام بقرارات الحلف، وفي حال التزام تركيا سيكون عليها التوقف عن ممارسة اللعب ” على الحبلين ” مما ستضطر روسيا لاستخدام قوتها السياسية والعسكرية إن تطلب الأمر لإيقاف مشاريع تركيا الاستعمارية لا سيما في سوريا والتي تشمل بالطبع شمال وشرق سوريا أيضا.

وعموما يرى بايدن وبحسب تصريح لشبكة CNN إذ قال صراحة: أنه يعتقد أن ” روسيا خصم ” وهددها برد فعل قوي إن تدخلت في الانتخابات، وكشف مما هو أخطر من ذلك حين قال: ” هناك ما يتردد ان روسيا تدفع مكافآت لطالبان مقابل استهداف القوات الامريكية في أفغانستان.”

رابعا: محور الحرب على الإرهاب وشمال شرق سوريا:

استبشر الكرد خيرا بفوز بايدن بعد أن خاب ظنهم بسلفه ترامب، والذي عقد أكثر من صفقة مع نظام أردوغان والذي قام بموجبها باحتلال العديد من البلدات والقرى في شمال شرق سوريا لا سيما صفقة (كرى سبي وسرى كانيه) ونتيجة لمواقف ترامب الداعمة لأردوغان وتخليه عن (حلفائه المحليين) قدم وزير الدفاع الأمريكي استقالته احتجاجا على ذلك  وكذلك فعل المبعوث الأمريكي ماكغورك، بعد ان غدر رئيسه ب “حلفائه الكرد ” ومثل هذه الاستقالات اعتبرت سابقة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

بالمقابل صرح السناتور بايدن وقتها بأنه من العار على الولايات المتحدة أن تتخلى عن ” شركائها الكرد الذين قاتلوا معها ببسالة ضد تنظيم داعش وألحقوا به الهزيمة بعد ان قدموا آلاف الضحايا ”

في حوار متلفز صرح بايدن حول التعامل مع تركيا والرئيس التركي موضحا، أنه سيتعامل بطريقة مختلفة مع أردوغان، وسيدعم المعارضة التركية لإسقاط أردوغان وهزيمته، مشيرا إلى أنه مهزوم حقيقة فقد خسر في استنبول وتفتت حزبه، وهو قلق بشأن بيع الأسلحة لتركيا، وقال: ” لقد جلست مع القادة الاتراك وكنت صريحا معهم، وأكدت لهم يجب أن يتوقفوا عن ممارساتهم، ويجب إشراك الكرد في العملية السياسية والبرلمان، وسوف أعمل بقوة لدمج الكرد في العملية السياسية .”

وكذلك صرحت نائبة بايدن السيدة كاميلا هاريس أنها مستغربة من العار الذي ألحقه ترامب ببلدهم عندما تخلى عن  ” حلفائنا الكرد، وتركهم وحيدين في مواجهة تركيا ” .

مثل هذه التصريحات أراحت الشعب الكردي بشكل عام في عموم كردستان وبشكل خاص في شمال شرق سوريا حيث التهديد التركي قائم لايزال، ويبدو ان أردوغان سيفكر مليا قبل القيام بعملية جديدة بعد وصول ” السناتور الوقح ” ـ كما وصفته القيادة التركية ـ إلى البيت الأبيض.

وبالطبع لن يستطيع بايدن أن يمسك بعصى سحرية ليحل مشاكل الكرد وقضاياهم وتعقيدات المسألة الكردية في أجزائها الأربعة، ولا نعتقد انه سيحقق ” حلمه بقيام كردستان مع الرئيس مسعود البرزاني ” كما تقول بعض المصادر الكردية الإعلامية، فبايدن محكوم هو الآخر بقوانين ومؤسسات ومصالح قومية و وطنية لبلده وشعبه قبل كل شي، لكن ما تؤكده الوقائع أن المرحلة ستتبدل حتما، وقد يجد الكرد صديقا يقف معهم أو على الأقل يوقف طائرات الموت التي تدك قراهم وأطفالهم في شرق أوسط متجه إلى متغيرات تاريخية كبرى كما تشير كل الوقائع والأحداث.

 

NRLS