تعتبر معارك عين عيسى بداية للسياسة الروسية الجديدة في سوريا فبعد فشل روسيا في تحقيق أهدافها في الضغط على قوات سوريا الديمقراطية لتسليم البلدة لقوات النظام والتي كانت ستتحول إلى نقطة مركزية لتغلغل النظام في باقي مناطق الإدارة الذاتية حيث باتت روسيا تدرك تماماً صعوبة عودة النظام إلى المنطقة الغنية بالثروات والمحاصيل الزراعية، وأن تدخلها العسكري في سوريا أصبح يشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصادها، فروسيا قد وضعت في استراتيجية تدخلها العسكري في سوريا تأمين نفقاتها العسكرية من الثروات السورية وعقود الاستثمار، إلا أن قانون قيصر “العقوبات المفروضة على سوريا” والوجود الأمريكي حال دون تحقيق هدفها في تأمين نفقاتها وأصبحت سوريا في ظل قانون قيصر تتحول إلى مستنقع لا يمكن الخروج منه.
ولتجنب ذلك بدأت روسيا تتودد إلى الولايات المتحدة وتغير من لهجتها تجاهها، فقد صرح وزير خارجيتها سيرغي لافروف: “لدينا اتصالات مع الولايات المتحدة من خلال القنوات العسكرية، وذلك ليس لأننا نقر بشرعية وجودهم في سوريا، لكن ببساطة لأنهم يجب أن يتصرفوا في إطار قواعد محددة” وأضاف: “لا يمكننا طردهم من هناك، ولن ننخرط في اشتباكات مسلحة معهم، ولكن نظراً لوجودهم هناك، نجري حواراً معهم حول ما يسمى منع الصدام، نحقق من خلاله امتثالهم بقواعد معينة. ومن بين أمور أخرى، نتحدث بشكل صارم عن عدم جواز استخدام القوة ضد المواقع التابعة للدولة السورية”. أي أن روسيا باتت تعترف بالوجود الأمريكي في مناطق الإدارة الذاتية من أجل عدم استهداف قوات النظام في المناطق الشرقية التي تقيّد من تحركاتها من جهة، ومن جهة أخرى تحاول روسيا تعويم النظام وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل قانون قيصر بالرغم من عدم وجود معارضة صارمة دولياً ضد بقاء الأسد في الحكم, وإن تعويم النظام يأتي من بوابة التطبيع مع إسرائيل، ففي الفترة الماضية أفادت مواقع إعلامية أن قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، استضافت اجتماعاً بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين برعاية روسية، ومع نفي النظام لهذا الاجتماع إلا أنه قد يشكل بدايةً لمسار جديد يدفع روسيا باتجاهه، ومن المتوقع أن يشهد هذا المسار توسعاً كبيراً في عام 2021. إلا أن المشكلة التي ستواجه روسيا هي إخراج النظام من العباءة الإيرانية، وإنهاء ما يسمى بدول الممانعة كون إيران لديها نفوذ سياسي وعسكري لا يمكن تجاهله في سوريا وأكبر من قدرة بشار الأسد في إخراج دمشق من العباءة الإيرانية، لذا فإن إيران لن تسمح لأحد المساس بنفوذها في سوريا الذي من شأنه تقويض مشروع إيران التوسعي في المنطقة وتجعلها محاصرة ضمن جغرافية محددة في ظل تشكل جبهة إسرائيلية خليجية مصرية ضدها ورغبة تركيا للانضمام إليها.
كما لا تتوانى روسيا في الضغط على قوات سوريا الديمقراطية وإعادة النظام إلى مناطق الإدارة الذاتية التي تعتبر مفتاح حل الأزمة الاقتصادية للنظام وروسيا من خلال ضرب الاستقرار الأمني الذي تعيشها المنطقة، وخلق فوضى داخل مناطق الإدارة الذاتية، واستغلال عمليات الاغتيال بحق شخصيات محسوبة على مجلس سوريا الديمقراطي للتأثير على التواجد الأمريكي في المنطقة وإضعاف ثقة الأمريكيين بقسد في تأمين الأمن والاستقرار للمنطقة, كما أن الأزمة بين قسد والنظام في الحسكة وقامشلو مع عدم وجود رغبة روسية لحل الأزمة بين الطرفين وهي قادرة على ذلك دليل على رغبتها في خلق فوضى في المنطقة وتأليب العشائر على الإدارة الذاتية.
هذا بالإضافة إلى التنسيق المستمر بين روسيا وتركيا لإيجاد صيغة حل ملائمة لهما حيث ستدفع روسيا بتركيا لتطبيع علاقاتها مع النظام للوصول إلى اتفاق يفضي بعدم اعتراف النظام بالإدارة الذاتية أو تقديم تنازلات لها مقابل إضعاف ما يسمى بالائتلاف السوري ودمجه في هيكلية النظام من خلال منحهم بعض الوزارات مع إبقاء المناطق المحتلة مناطق نفوذ تركية، والعمل معاً ” تركيا وروسيا والنظام” لاحتواء السياسة الأمريكية في المنطقة وتضييق الخناق أكثر على الإدارة الذاتية، وزرع الفتنة بين مكونات المنطقة تمهيداً لإحداث شرخ بينهم يكون سبباً بإخراج الولايات المتحدة من المنطقة ومنعها من إقامة قواعد عسكرية دائمة لها. وقيام روسيا بعقد اجتماعات مع العشائر الموالية للنظام في الآونة الأخيرة في محاولة لها لتشكيل ميليشيا عشائرية مناوئة لقوات سوريا الديمقراطية ومدعومة من أبناء المناطق الداخلية الواقعة تحت سيطرة النظام وتحسباً لأي تغيرٍ قد يطرأ على المنطقة تكون روسيا قادرة على ملء الفراغ.
أمام هذا الواقع باتت روسيا أمام معضلتين تحول دون تحول سوريا إلى مستنقع، الأولى تكمن في قدرتها الحفاظ على الاقتصاد السوري وإعادة تحريك العجلة الاقتصادية لمنع انهيار النظام اقتصادياً حيث باتت تظهر معالمها وقد تنذر بظهور حركات شعبية مناوئة للنظام بسبب سوء الأوضاع المعيشية مما قد يشكل تحدّياً كبيراً لروسيا. ومعضلة تعويم النظام والتي قد تأتي من البوابة الإسرائيلية واستعمالها كورقة ضغط أمام الهيمنة الأمريكية في المنطقة من أجل الحفاظ على مكتسباتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في سوريا.
NRLS