العقل المعلّب وحوار الطرشان…

الأطرش بالعامية يعني الأصم الذي لا يسمع، والصمم ليس عيباً بذاته، ولكن المعنى المقصود هو المعاند الذي لا يتفهم ما يٌقال، ويصرُّ أن ينتهيَ الحوارُ كما يرغب، والواقع أنَّ اغلبَ حواراتنا من نموذج “حوار الطرشان” من الطرفين، وكلُّ ما يُقالُ عبثٌ لمجردِ النكايةِ والمكايدةِ والاستفزازِ، ولا تخلو من عباراتِ الازدراءِ والسخريةِ حتى الشتمِ.

كلنا متفقون أنَّ الاختلافَ هو سنةُ الحياةِ، بل إنَّ البشر مختلفون بالفطرةِ بإرادة الله سبحانه، في قومياتهم وألوانهم ومناطقهم الجغرافيّة، وبالتالي انتمائهم المناطقيّ والوطنيّ، ولا نعي أنَّ الآخرَ المختلفَ ليس عدواً، ولم يأتِ إلى الوجودِ ليكونَ عدواً…

المشكلةُ تكمنُ بأدلجة الوجودِ، وتبنّي نظرياتِ التفوقِ القوميّ، بمعنى أنَّ البعضَ يتصورُ نفسه متفوقاً وأفضل من غيره بمجردِ النسبِ، ودون أن يفعلَ شيئاً، والآخر سيءٌ وقاصرٌ وأدنى مقاماً أيضاً بمجرد النسبِ، وباختصار هي “أيديولوجيا البيولوجيا”، أو “أدلجة النطفة”، ومن أمثلتها نظرياتُ النازيةِ والفاشيةِ والصهيونيّة ونظام الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا…
مجتمعاتنا ليست بمنأى عن هذا المرضِ العضالِ، بل تعاني منه منذ قرونٍ طويلةٍ، وكان ذلك سببَ الكثيرِ من الحروبِ والاقتتالِ وحالاتِ الاحتقانِ، وهو يتعدى الاختلافَ العرقيّ إلى الدينيّ والمذهبيّ وحتى السياسيّ.
ورغم مرور قرونٍ طويلةٍ على حالةِ التعدديّةِ الإثنيّةِ والدينيّة والمذهبيّة إلا أن مجتمعاتنا لم تتصالح مع هذه الحقيقةِ، ومازال فريقٌ يفاخرُ بتميّزه ويتهمُ الآخر بالقصورِ ويدعو لقتاله… وكلُّ الحواراتِ بين المختلفين لم تفضِ إلى نتائج إيجابيّةٍ لتجاوز الخلافِ التاريخيّ، وكانت “حوارات الطرشان”… فانتهت حيث البداية، بسبب التنميط وتعليب العقول!

لذلك لم يكن من الممكنِ حلُّ الأزمةِ السوريّةِ عبر الحوارِ لحقنِ دماءِ الناس ووضعِ حدٍّ للاقتتالِ والتدخلِ الخارجيّ والنزوحِ واللجوءِ والهجرةِ، والسؤال ببساطة: من يعوّلُ على حوارِ السوريين لحلِّ الأزمةِ؟

لنتخيل عربيّاً يحاور كرديّاً، يبدأ الحوار بتهمةِ الانفصال وتشكيلِ كيان مستقل، فهناك تصور أن الكرديَّ يولد انفصاليّاً، يحاول الكرديّ أن يوضح مطلبه بالحياة الطبيعيّة ويتكلم ويتعلم بلغته… وهنا تثبت تهمةُ الانفصال… لأنَّ الآخر يحاكمُ الكرديّ وفق معطى قوميّ آخر، ويجب على الكرديّ ألا يكون كرديّاً ليتبرأ من التهمةِ الموجهة له… وفي بعض المواقف يتعمدُ البعض شتمَ الكردِ كلهم، بغرضِ الاستفزازِ، وعندما يردُّ الكرديّ… تكونُ تهمةُ الانفصالِ جاهزة… وبذلك ينتهي الحوارُ بالتهمة نفسها! رغم أنى لا أعرف تعريفاً واضحاً للانفصالِ!

في أحد المواقفِ قلتُ لمعاندٍ: خلقني الله كرديّاً، فهل تسمح لي أن أكونَ كرديّاً؟ قال: أكيد… ولكن لا تقل إنك تريدُ تعليماً باللغةِ الكرديّةِ ووو وراح يعددُ بعض المسائل، وانتهى بالقول: طبعاً هذا لا يجوز!!

يحاور سنيّ مثلاً شيعيّاً، أو ربما اثنان من المذهب نفسه ولكنهما مختلفان في تفاصيل مذهبيّة معينة، فيبدأ أحدهما باتهام الآخر بالكفر والردة… إلخ ولعله يفتي بجواز قتله… رغم الاتفاق حول وحدانية الله والنبي والكتاب، واقتصارِ الاختلافِ على تأويل أو موقف من حدثٍ أو شخصية تاريخيّة أو مجرد شيخ… ورغم إقرار الطرفين أنّ الحدثَ مضى، والشخصية باتت من الماضي أو أنّها ليست معصومةً عن الخطأ… ولكن كل طرفٍ يريدُ من الآخر قبولَ كلِّ تفاصيلِ عقيدته، ليسلمَ من تهمةِ الكفر!

قبل أيام أصر أحدهم أن يحاورني فأكدت أن ما يمكن أن نتفق حوله كثير جداً، وأنَّ الاختلافَ تفصيليّ وضئيل، وأوشكت ان أغادرَ عندما سألني فجأة عن كتابٍ معينٍ، قلت: لديَّ الكتاب وقد قرأته، ولكنه أصرَّ على معرفة رأيي فيه. ورغم إقراره بعدم قراءته، قال بنبرةٍ حادةٍ: إياكَ أن تشككَ بصحته! قلت: وهل هو كتابٌ مقدسٌ؟ هل أنزله الوحي؟ قال: لا، ولكن لا يجوزُ الطعنُ فيه… قلت: لم أطعن فيه فقط احتفظتُ برأيي لنفسي… فخرج بفتوى أنّه لا يحلُّ لي أن أحبسَ العلمَ!

كلُّ ما يُقالُ عن قبولِ الآخر مجردُ دعايةٍ، والدليلُ أنَّ مجتمعاتنا طوال قرون طويلة لم تستطع تجاوزَ خلافاتها القديمةِ ولا زالت تقتتلُ على ذمةِ الماضي، وتمجّدُ المتنازعين السابقين! وأفكارنا مجرد ميراث وأفعالنا تقليدٌ! ولعله من المتعينِ أن تقولَ للآخر هل تسمحُ لي أن أختلفَ عنك، وكأنَّه يمتلكُ الحقيقة المطلقة؟

هذا الداءُ العضالُ المتفشّي فينا، هو سببُ تحكمِ الآخرين فينا وقيادتنا حيث يشاؤون، وعندما نتحدثُ عن المؤامرةِ فإنّنا نقفزُ فوق الحقيقةِ، لأننا بالأصلِ لا نملك أدنى درجة من المناعة، ومتخالفون ومستعدون للاقتتالِ، رغم علمنا أن لا مصلحةَ لنا بذلك، ليحوّل الآخرون رغبتنا بالتنازعِ إلى واقعٍ بتزويدنا بالسلاحِ!

ولات عفريني