سوريا تلجأ لعقود روسية وإيرانية طويلة الأمد لعـ.ـجزها الاقتصادي

في وقت تسعى فيه القوات الحكومية السورية والجماعات الموالية لها إلى سحق المعارضة وإثبات أن الحرب انتهت في البلاد، بما يسمح ببدء مرحلة إعادة الإعمار، تخسر الدولة السورية أهم مراكز قوتها الاقتصادية التي كان يفترض أن تجعل منها مركزاً مهماً بالنسبة للطاقة ومشاريع الاستثمار في المنطقة.

ففي الوقت الذي تتحدث الماكينة الإعلامية والسياسية للحكومة السورية عن التعافي وإعادة الإعمار، تقوم الحكومة ذاتها بتقديم امتيازات طويلة الأمد وفي قطاعات حساسة لشركات روسية وإيرانية، بما يشكل خطراً ليس على حاضر سوريا فقط، وإنما مستقبلها أيضاً.

منذ كانون الثاني/يناير2018 وإلى جانب قاعدة حميميم، أنشأت روسيا قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، تستوعب سفناً حربية كبيرة. وصدّق البرلمان الروسي في عام 2017 على اتفاق لترسيخ وجود روسيا في سوريا، ولتمهيد الطريق أمام وجود عسكري دائم في قواعد بحرية وجوية هناك. وتقضي الاتفاقية بإقامة مركز لوجستي للمعدات الفنية للأسطول الروسي في طرطوس لمدة 49 عاماً. كما تم الاتفاق على قيام روسيا بتوسيع وتحديث إمكانات الميناء لتقديم خدمات وتسهيلات لأسطولها، ليكون قادراً على استقبال حاملات الطائرات والغواصات النووية، وهذا ليس عقدا بل احتلالا بطريقة غير مباشرة إذ إن العقد يتضمن إجراء توسيع للمرفأ، إضافة لأعمال تطويرية وتحديث البنية التحتية للمرفأ الحالي، وإنشاء مرفأ جديد بحيث يزداد الإنتاج عن 4 ملايين طن حالياً ليصل إلى 38 مليون طن سنوياً، وبتكلفة تقديرية تتجاوز 500 مليون دولار.

يذكر أن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس هي منطقة الوجود الروسي الوحيدة في البحر المتوسط، إذ كان الوصول إلى “المياه الدافئة” وإقامة قواعد عسكرية فيها حلماً تاريخياً للروس، يمكنهم من إيجاد نقطة ربط بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما يعني وجوداً لروسيا في قلب العالم

وامتدت ما تسمى “الاستثمارات” الروسية والإيرانية إلى أغلب القطاعات الحيوية السيادية في سوريا، لاسيما النفط والغاز والفوسفات والبوتاس والمطارات إضافة إلى الموانئ.

وتعد الاستثمارات الروسية في مجالات حيوية في سوريا قديمة. إذ تم في العام 1971 توقيع اتفاق بين سوريا والاتحاد السوفيتي لبناء قاعدة عسكرية بحرية سوفيتية في مدينة طرطوس على البحر الأبيض المتوسط، بعد سنتين فقط من تأسيس مرفأ المدينة.

لكن مع التدخل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015، لأجل حماية الحكومة السورية، كان المقابل هو حصول الروس على العقود التي يطمحون إليها، وأهمها منفذ المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب الكثير من العقود في الفوسفات ومناجم الملح والقطاع النفطي وغيرها.

وقد اعتمد الروس خلال السنوات الماضية على نمط جديد من الاستثمار في سوريا، هو “الاستثمار المافياوي”، والذي يقوم على “أن تحوز الشركة استثماراً بتكلفة أقل من قيمته الحقيقية، ثم تبدأ بالاعتماد على الدولة السورية في تمويله من حسابها، بحيث تكون المنشأة جاهزة للاستخدام والاستثمار أو إعادة بيعها لمستثمرين أجانب بسعر أعلى”.

بموجب هذا الشكل المافياوي، تقوم العقود الحالية بين الحكومة السورية والشركات الروسية على “تحميل الدولة السورية عبئاً إضافياً هي في غنى عنه”، على نحو ما يظهر مثلاً في العقد الموقع بين المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية وشركة “ستروي ترانس غاز” بخصوص استثمار واستخراج خامات الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر.

إذ بموجب العقد ستكون حصة المؤسسة العامة للجيولوجيا 30% من كمية الإنتاج، وتتحمل المؤسسة السورية دفع قيمة حق الدولة عن كميات الفوسفات المنتجة مع تسديد قيمة أجور الأرض والتراخيص وأجور ونفقات إشراف المؤسسة والضرائب والرسوم الأخرى والبالغة بحدود 2 بالمئة ولمدة 50 سنة بإنتاج سنوي قدره 2.2 مليون طن. الأمر الذي يعني استنفاد كامل احتياطي الفوسفات في سوريا.

كما أن هذا النمط من العقود سوف يمنع الدولة السورية من الاستفادة من المنشآت في الوقت الراهن أو حتى بعد بيعها مرة أخرى لمستثمرين أجانب، وذلك قد يجعل المواطن السوري يستخدم مثلاً ميناء لبنان أو الأردن عوضاً عن موانئ سوريا بسبب ارتفاع تكاليفها نتيجة الاستثمارات المافياوية.

وبعد سيطرة الروس على كثير من الاستثمارات السيادية، وتحكمهم بالقرار السياسي إلى حد كبير، لجأت إيران، إلى التغلغل في المشاريع متناهية الصغر التي تمس الفقراء كثيراً.

وهي تسعى من خلال ذلك إلى خلق حاضنة لها من هؤلاء الفقراء وشراء موالين لها، ليكونوا ورقة وعنصر مشاغبة كالتيار الصدري في العراق، للضغط على القرار السياسي، والتحكم في استقرار البلد.

إذ تركز إيران على الاستثمار في البنوك الممولة للمشاريع متناهية الصغر، وتمويل الكهرباء للأحياء الصغيرة، وكل ما يخص الفقراء. ما يعني أن أي مشروع كبير لن يعطى للمستثمر طالما هناك فوضى سياسية في البلد.

وقد احتلت إيران أكبر جناح دولي مشارك في معرض دمشق الدولي في دورته الأخيرة الحادية والستين، والتي افتتحت في 28 آب/أغسطس الماضي وحتى 6 أيلول/سبتمبر الحالي.

إن مصالح روسيا وإيران في سوريا، قد تلتقي أحياناً كما قد تتباعد. وعلى الصعيد الاقتصادي تحديداً فإن ذلك يرتبط باهتمامات كل طرف، إذ“نرى الآن الايرانيين مهتمين بمشاريع البنية التحتية والكهرباء والإسكان وغيرها من مجالات إعادة الإعمار. فيما تتمثل المجالات التي أخذت فيها الشركات الروسية حصة الأسد في مجالات الطاقة بالأساس، إضافة إلى حديث عن تأهيل السكك الحديدية.

ويحاول الإيرانيون بسط سيطرتهم على ميناء اللاذقية بكل إصرار ليكون لهم منفذ بحري في شرق المتوسط، كما نجحوا في حيازة عدد من آبار النفط في البوكمال في أقصى الشرق، ووضعوا أيديهم على مراكز تجارية وصناعية مهمة، وعدد من المنشآت الحيوية كمطار دمشق الدولي ومطار تي فور، ومساحات واسعة من الأراضي الزراعية.