مع بدء التدخل الأمريكي في الأزمة السورية في 2011، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد باراك أوباما خططاً عسكرية لترتيب وتجهيز بعض الفصائل المسلحة “المعتدلة”، لكن سرعان ما تراجعت الولايات المتحدة عن برنامجها بسبب عدم وثوقها بهؤلاء المقاتلين حيث أنفقت حوالي 500 مليون دولار على تجهيزهم وتدريبهم ورغم ذلك قاموا بتسليم أسلحتهم لمرتزقة النصرة. ومع ظهور تنظيم داعش الإرهابي وتمدده في سوريا والعراق وتنفيذه لعمليات إرهابية في أوروبا والولايات المتحدة، أثبتت وحدات حماية الشعب بأنها الطرف الوحيد الذي يستطيع محاربة الإرهاب وهزيمته، فتحول الدعم الأمريكي من تلك الجماعات المعتدلة إلى وحدات حماية الشعب التي أصبحت نواة تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، ولاقى هذا الدعم نجاحاً كبيراً بالقضاء على التنظيم الإرهابي في أغلب المناطق المحتلة وتحرير أكثر من 95% من مساحة الجغرافيا التي كان يسيطر عليها. وقد أنشأت الولايات المتحدة مع التحالف الدولي قواعد عسكرية لها في شرق الفرات وغربه كقاعدة كوباني ومنبج والتنف وإدخال أسلحة ورادارات متطورة، مع زيادة الدعم لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب مادياً وعسكرياً.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ما مدى جدية ترامب عندما صرح في رغبته بالانسحاب من شمال وشرق سوريا وهل يمكن اعتبار التواجد الأمريكي في المنطقة تكتيكي أم أنه تواجد استراتيجي؟
إذا ما قامت الولايات المتحدة بالانسحاب من المنطقة، فلن يكون هذا الانسحاب إلا بشروط وتفاهمات مع روسيا فيجب أن يكون لدى روسيا مقابل تقدمه للولايات المتحدة الأمريكية، كامتيازات اقتصادية أو حصة من استثمار النفط أو وقف تطوير الاسلحة الاستراتيجية أو الانسحاب من شبه جزيرة القرم وتعتبر هذه التنازلات شبه مستحيلة.
بالرغم من سياسة ترامب التي تقوم على مبدأ ” ادفع ” ومطالبته دول الخليج وحتى الاتحاد الأوربي بدفع الأموال لقاء حمايتهم من التهديد الايراني والروسي، لا يمكن أن يكون توقف السعودية عن الدفع سبباً كافياً لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر المناطق استراتيجية في الشرق الأوسط وفقدان ثقة شركاء وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية والذي قد يؤدي إلى خسارتهم. أصبح تواجد قوات أمريكية في الشرق الأوسط ضرورياً بعد عودة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وظهور روسيا كدولة عظمى في العالم خلال فترة باراك أوباما وقيامها بتوريد منظومة اس 400 المتطورة لبعض دول العالم منها الصين والهند وتركيا أو حتى إيران والتي تشكل تهديداً للولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.
بعد قيام روسيا بتوسيع قاعدتها البحرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط في طرطوس وانشاء قاعدة جوية في حميميم وإدخال منظومة اس 400 إليها، أصبح التواجد الروسي في الشرق المتوسط طويل المدى، مما يجعل التواجد الأمريكي في شمال وشرق سوريا ضرورياً للحفاظ على توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد التغيرات التي حدثت على الساحة الدولية والإقليمية ولا سيما العلاقات الأمريكية مع روسيا والصين وتركيا والتمدد الإيراني من جهة، وزيادة التعاون الروسي مع الصين والهند وتركيا ومع إيران من جهة أخرى. حيث ترغب الولايات المتحدة في العودة إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة بعد خسارتها جزء من نفوذها في العراق بعد انسحابها لصالح بعض الدول خلال فترة باراك أوباما.
إن توسيع الولايات المتحدة لقواعدها العسكرية في شمال وشرق الفرات ودعمها برادارات واسلحة متطورة قد يهدف إلى إيجاد بديل لقاعدة أنجر ليك الموجودة في تركيا، كما ان هذه القواعد مع القواعد الموجودة في اليونان ستعمل على تطويق قاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين في سوريا، وتمنع التمدد الروسي في المنطقة. وقد تعمل الولايات المتحدة على إدخال قوة عربية خليجية أردنية مصرية في شمال وشرق الفرات مع القوات الفرنسية وهي ما قد تعتبر كقوة رديفة لحلف الناتو خاصة مع وجود مشاكل مع تركيا ثاني أكبر جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة وبالتالي فأن تشكيل قوة عسكرية عربية قد يعوض الناتو هذا النقص في المنطقة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية شريك الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب لتقوم الأخيرة بدعمها عسكرياً. لذا تعمل تركيا على التخفيف من حدة التوتر مع الولايات المتحدة لتتمكن من الانتقال بمرونة للحلف الروسي وامكانية الاستمرار بتهديد قوات سوريا الديمقراطية، لذا قامت بإخلاء سبيل القس برونسون
بالتالي يمكن القول أن التواجد الأمريكي في شمال وشرق سوريا بات ضرورة حتمية لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على مصالحهم في الشرق الأوسط
المصدر: مركز روج افا للدراسات الاستراتيجية