كان المصور العسكري الذي أطلق عليه الغرب اسم قيصر، صبوراً وهادئاً عندما فرّ من سوريا بصحبة 55 ألف صورة التقطها في المشرحة لجثث محترقة أو مشوهة أو مختنقة لشخصيات لاقت حتفها تحت وطأة التعذيب خلال التحقيقات التي أجراها محققو الرئيس بشار الأسد، لكن الهدوء والصبر اللذين تحلى بهما خلال رحلته المحفوفة بالخطر، حل مكانهما الغضب وربما الاكتئاب، نتيجة تقاعس الولايات المتحدة وحلفائها عن وقف انتهاكات الحكومة السورية في الوقت المناسب، بعدما خاطر بحياته لتقديم دليل لا يمكن إنكاره عن هذه الفظائع. إذ لم تدخل العقوبات الأميركية التي حملت لقبه (قيصر) حيز التنفيذ، إلا في 17 يونيو (حزيران) 2020، بعد إقرارها بدعم من الجمهوريين والديمقراطيين والبيت الأبيض ضمن قانون ميزانية الدفاع الوطني الأميركي لعام 2020، أي أن الأمر استغرق ست سنوات كاملة منذ أول تصريحات لقيصر أمام قادة الكونغرس في كابيتول هيل.
ومن غير المحتمل بعد هذا التأخير الطويل، أن يكون لقانون قيصر أي تأثير مفاجئ أو خطير في الاقتصاد السوري، لأن القانون يستهدف استنزاف حكومة الرئيس الأسد تدريجياً من المصادر المالية التي تغذي انتهاكاته، حيث يهدد القانون بمعاقبة أي شركة أجنبية تتعاقد مع النظام السوري للمشاركة في جهود إعادة الإعمار، الأمر الذي قد يقيد روسيا وإيران من الاستمرار في دعم دمشق، بعدما أنفقت إيران في سوريا ما يتراوح بي 30إلى40 مليار دولار وفقاً لما صرح به برلماني إيراني مؤخراً، في حين تذهب تقديرات باحثين غربيين إلى أن طهران تنفق 15 مليار دولار سنوياً في سوريا، أي أنها أنفقت165 مليار دولار خلال السنوات المنتهية في 2022، بينما تنفق روسيا على الحرب ما يقدر بمليار دولار سنوياً، إضافة إلى قروض بلغت 3 مليارات دولار قدمتها لمساعدة نظام الأسد.
كما ألحقت الأزمة المالية التي ضربت لبنان تأثيراً مدمراً في الاقتصاد السوري قبل بدء تنفيذ العقوبات، إذ كان الاقتصاد اللبناني المرتكز على الدولار، مصدراً رئيساً للعملات الصعبة إلى سوريا في وقت تتعرض دمشق لعقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وعندما قيدت البنوك اللبنانية سحب الأرصدة بالدولار منها، بدأ الطلب على الدولار الأميركي في سوريا يفوق العرض بشكل كبير، ما أدى إلى سقوط سريع لليرة السورية
وجلب انهيار الليرة معه تضخماً سريعاً، حيث قدّر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في أبريل (نيسان) الماضي، ارتفاع تكلفة سلة السلع الأساسية مثل الدقيق والزيت بنحو200 في المئة خلال عام واحد، وتسبّبت الحرب واعتماد السوريين على المساعدات الخارجية إلى زيادة الفقر والمعاناة، حتى في المناطق التي كانت تحت قبضة قوية من الحكومة السورية فترة طويلة كما أسهمت القيود المفروضة لمنع انتشار وباء كورونا في زيادة خطورة الوضع ايضاً
ويطرح الحرمان الذي يعانيه السوريون، سؤالاً مفصلياً حول ما إذا كانت العقوبات التي ينص عليها قانون قيصر ستحقق هدفها في زيادة الضغوط على الحكومة من دون أن تضيف أعباءً جديدة على المدنيين من الشعب السوري.
فبينما قللت أدلة التعذيب الجماعي والمنهجي من شكوك المسؤولين في أوروبا والولايات المتحدة في أن معاقبة الأسد وأعوانه تُعتبر قضية عادلة ومسألة ضميرية واجبة، إلا أن عدداً من المحللين والمفكرين، يساوون بين عقلية من يقف وراء قانون قيصر، وبين عقلية حكومة الأسد.
ويقول آرون لوند من مؤسسة سينشري في واشنطن، إن الجانبين يعملان على أساس مبدأ واحد هو إما الرئيس الأسد أو نحرق سوريا، حيث لا يخفي أحد الأطراف استعداده لقصف المدن والقرى السورية وحرقها وتجويع سكانها لمنع إقصاء بشار الأسد خارج المعادلة السياسية، فيما يبدو أن الجانب الآخر مصمم بالقدر نفسه على تدمير الاقتصاد السوري وإبقاء الحرب مشتعلة إلى الأبد لمنع الأسد من إعلان النصر.
ومع ذلك، تشير الجهود الأميركية والأوروبية للتخفيف من معاناة المدنيين السوريين إلى أن اتهام الغرب باللامبالاة والقسوة حيال معاناة الشعب السوري، ليست إلا اتهامات كاذبة، فطوال فترة الحرب، اقترنت العقوبات الغربية ضد حكومة الأسد، بدفع مليارات الدولارات في شكل مساعدات إنسانية كل عام، يتم تسليمها من خلال الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الشريكة، وعلى سبيل المثال تضمنت خطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية للاعوام السابقة تقديم مساعدة مباشرة لـ 9 ملايين شخص في سوريا.
ويرى ديفيد أديزنيك وتوبي ديشويتز، الباحثان في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، أن ما تحتاجه سوريا للتخفيف من المعاناة المستمرة للسوريين، ليست عقوبات أقل، بل إصلاح جذري لآلية الأمم المتحدة المستخدمة في تسليم المساعدات، والتي يشارك فيها حكومة الأسد بحكم الواقع، لدرجة أن وكالات الأمم المتحدة أصبحت مرتبطة بحصار السكان المدنيين، وفقاً لتقارير حقوقية عديدة ومراجعات أشارت إلى خروج المنظمة الدولية عن المبادئ الأساسية للنزاهة والحياد والاستقلالية.
وعلى مدى سنوات، سمحت الأمم المتحدة لحكومة الأسد بتقديم مساعدة مباشرة إلى السكان الداعمين له، بينما كان يمنع وبشكل منهجي عمليات تسليم المساعدات إلى المناطق التي لا تخضع لسيطرته. وعلى سبيل المثال، تشير آني سابارو وهي طبيبة أطفال وأستاذ الصحة العامة إلى تقييد الحكومة السورية عمل منظمة الصحة العالمية وإنكاره تفشي مرض شلل الأطفال في بعض المناطق على الرغم من الدلائل على ذلك، كما سارعت المنظمة إلى توفير مساعدات وأجهزة طبية لمواجهة تفشي فيروس كورونا، فيما لم تصل هذه المساعدات نفسها إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في شمال شرقها.
وفي كل الأحوال، فإن الوضع كارثي على المواطن السوري الذي يقبع تحت خط الفقر ولا يجد قوت يومه ليستمر في الحياة في ظل الوضع المتردي والمنهار لليرة والاقتصاد السوري فيما لا يزال الطبقة الحاكمة في دمشق من ضباط ومسؤولين يعيشون حياة الترف والنعيم في ظل الفساد والرشوة والمحسوبيات المستشرية بين دوائر الدولة والمسؤولين خاصة الافرع الأمنية التي تتمنهن الخطف والابتزاز.