أخبار عاجلة

الفوضى الخلاقة في الربيع السوري والأطراف الفاعلة

على الرغم من معاصرة الثورة السورية لأحداث ثورتي ليبيا واليمن، إلا أن إعلان انطلاقتها جاء متأخراً قليلاً عن انطلاقتهما، وهذا ما دعانا إلى كتابة فصل الفوضى السوري في آخر الفصول. وسنتابع تطورات الأحداث التي توقفنا عندها في البداية، لرسم الملامح الكاملة للصورة في أدقّ تفاصيلها، ما يشكّل فهماً صحيحاً في قراءتنا للواقع الحالي.
تمكّن النظام السوري إلقاء القبض على عدد كبير من تلاميذ “أبي القعقاع”، ومريديه والمتأثرين بخطبه معظمهم، بعد عودتهم من “الجهاد” في الأراضي العراقية، وأغلبهم قُبض عليهم قبل اغتيال أبي القعقاع عام 2007، كما أسلفنا؛ فأودعهم النظام في سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، لتبدأ بعد ذلك عملية التحضير “المبرمجة” التي مهدت بدورها لمرحلة البلبلة “المنشودة”.
ضم ذلك السجن بين جدرانه أطياف وتيارات المعارضة السياسية كلها لنظام الأسدين، الأب والابن، منذ تشييده في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم؛ فكان يُزجّ فيه باليساريين واليمينيين من الأحزاب العلمانية والقومية، إضافة إلى منتمي الأحزاب والحركات الإسلامية السياسية والسلفية الجهادية.
وبصورة غير مباشرة، حرص النظام على خلق حالة من التشنّج والنفور المستمر بين أفراد الفريقين من جهة، وبين أفراد التيارات ضمن الفريق الواحد من جهة أخرى، لتسهل سيطرته عليهم جميعاً.
وعلى الرغم من العداء المتجذّر بين النظام السوري والتيارات الإسلامية بسبب موقفه العدائي التاريخي من “الإخوان المسلمين” وأحداث الثمانينات المرة، إلا أنه كان يُقرّب السجناء الإسلاميين، على التيارات الأخرى في سياسته المتّبعة داخل السجن، وغالباً ما كان يقف في صفّهم إذا ما حصل صدام بين المجموعتين؛ فمنحهم حرية ممارسة طقوس العبادة، وإقامة الصلوات الجماعية، وقراءة القرآن وكتب الفقه والسيرة، والاستماع إلى أجهزة “المذياع” التي كانت حيازتها ممنوعة داخل المهاجع؛ وكانوا يتبادلون الأحاديث والمناقشات في الأمور الدينية والفقهية بأدقّ تفاصيلها.
تلك “المزايا الإيجابية” التي توفّرت للإسلاميين، لا تغطّي مطلقاً الإجراءات السلبية التي مورست عليهم من قبل النظام، والمتمثّل في إدارة السجن القمعية داخله، وخارجه في محكمة “أمن الدولة” المهيمنة، بالاشتراك مع الفروع الأمنية، على مصير السجناء المجهول في ظل غياب المحاكمات وأصولها القضائية المعروفة، ما جعلهم ينتظرون معجزة ما، تخلّصهم من جحيمهم المزمن؛ فجاءت الإشارة الأولى مع صباح يوم الخامس من تموز/ يوليو 2008، حين أعلن الإسلاميون العصيان على إدارة السجن متذرعين بسوء تصرف العناصر أثناء حملة تفتيش فجائية؛ تمكّن خلالها المحتجون من احتجاز ضباط وعناصر، لينتهي العصيان بتحرير الأخيرين، وسقوط قتلى في صفوف الإسلاميين، ولم يُحدد عددهم نتيجة التعتيم على الحدث؛ فجرى بذلك قمع التمرّد الذي يعتبر الأول من نوعه، ولم يتكرر منذ ذلك الحين.
بعد حادثة العصيان، غيّر النظام من سياسته السابقة مع الإسلاميين، فراح يضيّق بشدة على جماعاتهم، ووضعهم تحت المراقبة الدقيقة، وضاعف عدد السجانين، وعزّز سيطرته على السجن بوساطة عسكريين تابعين للفرقة الرابعة التي يرأسها ماهر الأسد الذين جرى بوساطتهم إنهاء العصيان بعد فتحهم نيران بنادقهم على منفذيه.
استمر الحال على ما هو عليه في سجن صيدنايا، واستطاع النظام خلال الفترة الممتدة بين العصيان ومنتصف عام 2011 تأهيل جيل جديد من السجناء الإسلاميين نتيجة تبنّيه لسياسة البطش والتنكيل، ليغدو منهجهم الفكري أكثر تشدداً وتطرّفاً من ذي قبل، تحضيراً للمرحلة المقبلة من مراحل تمدد الفوضى.
فوجئ السوريون، على اختلاف ميولهم ومواقفهم من الثورة، بمرسوم العفو الرئاسي الذي أصدره بشار الأسد بعد انقضاء ما يقرب من شهرين ونصف على اندلاع الثورة، وبالتحديد في 31/5/2011، ليشمل ذلك العفو إطلاق سراح ما يقارب 300 من “جهاديي” العراق المعتقلين في سجن صيدنايا، أغلبهم كانوا من أتباع أبي القعقاع، إضافة إلى عدد من أعضاء التيارات الإسلامية الأخرى كالإخوان المسلمين وحزب “التوحيد” وحزب “التحرير الإسلامي” وغيرهم. فكان ذلك المرسوم بمنزلة المعجزة المستحيلة التي كانوا ينتظرون حدوثها، ولم تكن لتحصل لولا اندلاع الثورة.
في تلك الأثناء، كانت التظاهرات السلمية تعم المدن السورية كلها تقريباً، وعلى الرغم من اشتراك الأجهزة الأمنية وجيش النظام في قمع المحتجين بالحديد والنار إلا أن خيار التسلّح لم يكن مطروحاً لدى أغلب الثوار، بل كان مرفوضاً بشكل قطعي؛ وكان الثوار يأملون من المجتمع الدولي أن يتدخّل عسكرياً لوقف آلة الحرب كما حصل في ليبيا على سبيل المثال.
وعلى الرغم من المؤشرات كلها التي تؤكّد استمرار النظام بتمسكه بالخيار الأمني لقمع الاحتجاجات، وغلوّه الواضح في التنكيل والتقتيل، إلا أن المجتمع الدولي لم يحرك ساكناً واكتفى بعبارات الشجب والتنديد والاستنكار في الوقت الذي كانت دبابات النظام وجيشه وعناصر أمنه يتوزعون عند مداخل المدن وبين حاراتها وشوارعها في مشهدٍ ينذر بخرابٍ مقبل لا محال. من بين المطلق سراحهم نتيجة مرسوم العفو الأسدي، برزت أسماء ثلاثة من الإسلاميين سيكون لهم الدور البارز في انتقال الثورة من حراكها السلمي ومفهوماتها المدنية إلى مرحلة الحراك العسكري والمفهومات الإسلاموية.
هؤلاء الثلاثة هم: زهران علوش، قائد “لواء الإسلام” الذي بويع في ما بعد قائداً لـ”جيش الإسلام”؛ وحسّان عبّود (الملقّب بأبي عبد الله الحموي)، قائد “حركة أحرار الشام”؛ وعيسى الشيخ، قائد “لواء صقور الإسلام”. وقبل أن يتمكّن أولئك إعلان تشكيلهم للفصائل وتزعّمها الذي امتد بين نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 وتموز/ يوليو 2012، كانت الساحة آنذاك تتبع للجيش الحر الذي بدأ يتشكّل من الضباط والعسكريين المنشقين عن نظام الأسد، نذكر منهم الملازم عبد الرزاق طلاس والرائد حسين الهرموش والعقيد رياض الأسعد، وتشكّل كذلك من أبناء المدن الثائرة ضد النظام.
لم تكن فصائل الجيش الحر وقتذاك تتبع لحزب أو تيار إسلامي ما، بل كان أغلب أفرادها من المزيج السوري المتعدد الثقافات والميول، ومن المعتدلين دينياً معظمهم؛ كما شهدت تلك المرحلة تشكيل فصائل ضمت أفراداً من الديانة المسيحية ومن أبناء الطوائف الدرزية والعلوية والإسماعيلية. وعلى الرغم من ذلك أطلقت على فصائل الجيش الحر معظمها مسميات ذات طابع إسلامي، تبيّن لاحقاً بأن الأطراف الممّولة لها كانت تشترط تلك الأسماء مقابل التمويل.
حين ذاك، لم يكن بإمكان زعماء التشكيلات اللاحقة إعلان برامجهم الإسلاموية بالشكل الصريح إلى أن استتب لهم الأمر بعد استهداف قادة الجيش الحر وأفراده معظمهم من قبل طائرات النظام وعناصر مخابراته؛ إضافة إلى وقف تمويل من بقي منهم، واقتصار ذلك التمويل على التشكيلات الإسلاموية الحديثة، ما دفع عدداً من أفراد الجيش الحر إلى الانضمام إلى صفوف تلك التشكيلات، وفريقاً آخر آثر اعتزال القتال والنزوح إلى الدول المجاورة أو التوجه تهريباً إلى الدول الأوروبية.
وتزامن مع انطلاقة نشاط التشكيلات الثلاثة السابقة، إعلان تشكيل أحد أهم المشاركين وأخطرهم اليوم في فوضى الحرب السورية “جبهة النصرة لأهل الشام” الذراع السوري لتنظيم القاعدة، بزعامة “الجولاني” تلميذ “أبي القعقاع” الذي عاد في آب/ أغسطس 2011 من العراق بعد نشاطه هناك مع زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” آنداك “أبي بكر البغدادي” وقبله مع “الزرقاوي”. والجولاني هذا، كان أيضاً ممّن أُفرج عنهم وخرجوا من السجن، ولكن هذه المرة كان على يد الأمريكان الذين أطلقوه من سجن “بوكا” العراقي عام 2008. فأعلن الجولاني تشكيله السوري في 24 كانون الثاني/ يناير 2012.
وبسيطرة تلك التشكيلات العسكرية على ساحة الصراع السوري، وطرحها لبرامجها السياسية الدينية على العلن، نجح النظام أخيراً في إثبات نظريته التي طالما أوهم بها العالم منذ أيام الحراك الأول، حين ادعى بأن حربه على السوريين هي حرب ضد “الإرهاب”، ما يبيح له المشاركة في تطبيق نظرية الفوضى والاستفادة من نتائجها اللاحقة.
ولعل أكثر العناصر التي تبنّت مفهوم النظرية وكرّستها وحرصت على المشاركة في تنفيذها وانتشار خرابها ليشمل أوسع بقعة جغرافية، هو تنظيم “داعش”؛ ذلك التنظيم الذي أشرف بنفسه، وبقناعة تامة، على تطبيق الفوضى، عقائدياً وعسكرياً واجتماعياً. إذ تبنى التنظيم نظريةً تتطابق كلياً مع مفهوم “الفوضى الخلاقة”، والمطروحة في كتاب “إدارة التوحّش” لمؤلفه المجهول الهوية “أبي بكر ناجي”، ولا نستبعد أن يكون مصدر هذا الكتاب هو المصدر ذاته المحرّك لـ “الفوضى الخلاقة”، فهما يكمّلان بعضهما، لا سيما أن الأخيرة تستند في تنفيذ مخططها الجنوني إلى عنصر الإسلام المتشدد لخلق شرق أوسط جديد.
ومع تدخّل إيران وميليشياتها الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية تدخلاً سافراً ومعلناً في الحرب ضد السوريين إلى جانب النظام، غدت الساحة السورية نموذجاً مثالياً خلّاقاً لمفهوم الفوضى العام.